تمثل قيم التآزر ومساعدة الآخرين سمةً إنسانية رفيعةً في أخلاق الناس من مختلف الديانات والثقافات والأوطان، وهي في الدين الإسلامي الحنيف أكثر رسوخًا وحضورًا في أخلاق الأفراد والمجتمعات، إذ يزخر القرآن الكريم والسنة النبوية بآيات وأحاديث تمثل أساسًا لبناء هذه القيم الأخلاقية النبيلة، قال تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). وقال النبي (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا وشبك بين أصابعه) وقال (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته). أشارت العديد من الدراسات العلمية إلى أن لتقديم المساعدة ومد يد العون للآخرين فوائد صحية ونفسية، يجنيها من قدم المساعدة أو بذل المال للآخرين، ومن تلك الفوائد تقليل التوتر وتحسين الصحة، وتعزيز الشعور بالانتماء، وتقوية الروابط الاجتماعية، والإسهام في محاربة الكثير من الآفات الاجتماعية كالعزلة والفقر والجهل. وفي هذا الزمان نعيش ضعفًا ظاهرًا في العلاقات الاجتماعية، بل وصل الحال إلى مستوى التفكك الاجتماعي الكامل في بعض المجتمعات، حتى كتب أحد الأطباء في إحدى الولاياتالأمريكية إبان جائحة كرونا، معبرًا عن حزنه الشديد لموت مئات من كبار السن، ليس بسبب "الاقتراب" منهم ونقل عدوى "كرونا" إليهم، بل بسبب "الابتعاد" عنهم وتركهم ضحية العزلة الاجتماعية، كونهم يعيشون في أحياء فقيرة ومُنعزلة، حين ضربت موجة حر شديدة المنطقة؛ ليموت 748 شخصًا خلال أسبوع، مع أن إنقاذهم لم يتطلب سوى حمامٍ باردٍ أو تعريضهم لمكيف الهواء. في مقدمته سبق ابن خلدون الكثيرين إلى التحذير من خطر التباعد وفقدان أواصر التعاون إذ كتب: "إن عمران المجتمع لا يمكن أن يظهر إلى الوجود من خلال تفرق جهود الأفراد وتبعثرها، فالإنسان الذي يدرك بفطرته سبل عيشه، يدرك كذلك ضرورة تعاونه مع بني جنسه، إذ ليس في مقدور كل واحد أن يوفر حاجاته لنفسه. إن ذلك يفرض ويتطلب تعاونًا وترابطًا بين الناس". لا شك أن تعزيز قيم التعاون وإشاعة ثقافة التآزر الاجتماعي، لا تكون إلا بوعي الأفراد وإيمانهم العميق بضرورة الانخراط في علاقات اجتماعية إيجابية، فيما الواقع اليوم يشهد تناميًا متسارعًا لحالة من التمركز حول الذات، ظهرت مدفوعةً بالعديد من المتغيرات التي أثرت على المفاهيم والسلوكيات، التي من سلبياتها الإفراط في تركيز الفرد على ذاته واستقلاليته دون مراعاة لمن حوله، وصولًا إلى انعزاله عن محيطه الاجتماعي، ليجد البديل في الذات الرقمية، التي تشير الكثير من الدراسات إلى كونها بديلًا محتملًا عن الذات الواقعية! الحقيقة أن الحياة بُنيان، بل هي قلبٌ وروحٌ وجسد، تنشط بوجود الإنسان المُفعم بقيم الإنسانية من عدل ورحمة وتواضع وتعاون وإيثار، ويدب الضعف في أوصالها بتنامي الأنانية والطمع والظلم والغطرسة.