ثمة زمن نسعى فيه لتغيير الواقع، نبذل فيه جهدنا ونكافح كي نحفظ ما يمكن حفظه، كمن يسقي شجرة بدأت تذبل، يظن أن الماء والاهتمام كفيلان بإعادتها إلى الحياة. وثمة لحظة لا نملك فيها إلا أن نقف بصمت أمام ما تلاشى، نودّع ما لا يعود، ونعترف أن بعض الفقد كان مكتوبًا منذ زمن بعيد. في وقتٍ ما، نمدّ الجسور نحو من نحب، نعتذر، نُصلح، ونتمسّك بما تبقّى من أمل العلاقة، لأن القلوب تستحق المحاولة. غير أن هناك حدًّا ندرك فيه أن التمسك يُنهكنا، وأن البقاء لا يزيدنا إلا غربة؛ فنُمسك عن المحاولة، ونمنح أنفسنا سلام التخلّي وهدوءه. وفي العلاقات الزوجية تحديدًا، قد نقاوم الانهيار، نحاول، نُجرّب، نخطط، ونقدّم ما نستطيع، مقاومين السقوط لعله يصنع فرقًا، لكن قد نصل إلى مفترق نوقن فيه أن الاستمرار مكابرة لِما انتهى دوره في حياتنا، فنُفلت برفق، لا يأسًا، بل احترامًا للقدر وللشريك، وحفاظًا على ما تبقّى من أرواحنا. ليس هروبًا، بل إدراكًا عميقًا أن بعض العلاقات كُتب لها أن تُثمر، وبعضها كُتب لها أن تُفهم، وتُترك بلطف، دون ندم ولا خصومة. هناك وقت نركض فيه خلف الأحلام، نُصرّ، نُقاوم، لأننا نؤمن أن الطريق ما زال ممتدًا، وأحيانًا ندرك أن التقدّم ليس دومًا نصرًا، وأن الرجوع قد يكون شجاعة. وقد نقف مرة لنراجع أنفسنا، نعتذر، ونصحّح، لأن الاعتراف لا يُضعف الكرامة، بل يُطهّرها. وأحيانًا يدرك القلب أن الكلام لم يعد يصل، وأن التكرار أضاع المعنى؛ فنصمت، نُسلّم، ونترك للقلب فرصة التأمل فيما حدث. في كل ذلك، تتجلّى الحكمة في تمييز زمن المقاومة وزمن الرضا، زمن الجهد المركز وزمن الاسترخاء المُمَكِن، حتى لا نحارب بأيدينا ما كتبه الله بلطفه وحكمته. يتجاوز الرضا كونه استسلامًا لواقع لا حيلة فيه، ليغدو مقامًا من مقامات الإيمان. فالرضا بالقدر ليس شعارًا يرفعه القلب ساعة الانكسار، ولا حكمةً تُتلى في لحظات الضيق فحسب؛ بل هو مقام سامٍ لا يبلغه المرء إلا إذا تحرّر من قيود الدنيا، وأدرك ما تخفيه التجارب - على مراراتها - من حكمٍ خفية، وما تنطوي عليه تلك الحكم من دروس لمن أمعن النظر. ليس الرضا إذعانًا يائسًا، ولا استسلامًا للظلم أو للقهر، بل هو سكينة تنساب في القلب، وصفاء يعبُر الروح في صمت البلاء، فتذوقه كأنه نهر هادئ يجري في أعماق النفس. من رضي بالقدر لا يبالغ في التعلّق بالوالدين أو الإخوة أو الصحبة، ولا بالمال أو الزوجة، ولا يشد قلبه إلى كل ما يجيء ويمضي، لأنه يدرك أن التجربة الحياتية وجميع ما فيها إنما هي ممرّ لا مستقر. ولعل مما يضيء هذا المقام وصية النبي: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). هذا التوجيه ليس دعوة إلى الانسحاب، بل تربية للقلب على خفّة التعلّق، وحضور اللحظة، والرضا بما يُكتب لنا. من عاش كعابر سبيل، عرف أن الأقدار تمضي كما كُتبت، وأن الحكمة ليست في تغيير كل ما يحدث، بل في تغيير علاقتنا بما يحدث. فندرك بوعينا الرسالة ونفهم الدرس، ويبقى القلب ثابتًا حين تمطر الحياة عطاياها، وراضيًا حين تعصف بما لم يكن في الحسبان. الراضي لا يقف عند ظاهر الأقدار، بل يتأمل حكمتها وإن خفيت عنه. قال الإمام الغزالي: (الرضا أن لا يتغيّر باطنك عن الله، ولو تغيّر ظاهرك بالألم). فالراضي لا ينكر الوجع، لكنه لا يسمح له أن يُفسد مقام الرضا. يرى يد الله في كل شيء، حتى في الفقد والانكسار وفوات الأشخاص والأشياء والأوقات والأموال، فلا يسخط ولا يضطرب، لأنه تملّك قلبه التوازن، وقاده الانتباه، وأوقف برنامج التحسر والتأسف. وهنا يلتقي هذا المعنى مع ما عبّر عنه جلال الدين الرومي: (كن مستسلمًا راضيًا حتى لا تلمّ بك التعاسة). فمقاومة التجربة المرة تجعلك تتوافق مع ترددات التعاسة، وهو الدرس الذي ينبغي أن يعيه قلبك، ليحافظ على بوصلة الانتباه والتوازن وتقوده إلى مقام الرضا. والقاعدة تبقى هي نفسها: كلما خفّ تعلقك الزائد بالأشخاص والأشياء، زادت السكينة وهدأ الاضطراب، كما يوضح محمود درويش: (لي حكمةُ المحكوم بالإعدام: لا أشياء أملكها لتملكني). الراضي لا يملك شيئًا سوى رضاه عن الله، ولا يطلب شيئًا غير وجهه. لا يتخلّى عن الحب، أو الطموح، أو الحرية، أو التوازن، بل يتخلّى عن وهم التملّك. فيحب بلا قيد، ويسعى بلا هلع، ويعيش من غير أن يُسجن في نتائج لا سلطان له عليها. إنه عمق الاسترخاء والحرية وسط الأحداث حتى المريرة منها بلا يأس. بوثيوس في كتابه عزاء الفلسفة يقول في سجنه مخاطبا نفسه: (تعلّم، يا من يُروعك هاجسُ السيف والرمح في يد اللص، تعلّم أن تمضي في حياتك خاوي الوفاض، حتى يمكنك أن تُصَفِّر وتُغنِّي أمام قاطع الطريق). إذا مضيت في تجارب حياتك بلا تعلّقٍ يرهقك، فلن يخيفك شيء، بل ستتعلم كيف تخفّض من أهمية الأشياء والأحداث والأشخاص، حتى يصبح قلبك حرًّا، قادراً على الغناء والابتسام ولو أمام قطاع الطرق. لأن القلب عندها يتّسع حتى يتجاوز مرارة التجربة، ويهدأ حتى يغلب الفوضى، فلا يتسوّل الأمان من الخارج، بل يولّده من أعماقه. لأن سكينته ليست في استقرار الأحوال، بل في ثبات القلب على التسليم والرضا. ومما يُعمّق هذا المعنى، ما قاله فريدريك نيتشه: (الذي لديه سبب للعيش، يمكنه تحمّل أي كيف). فالراضي وإن لم يُلغي ألمه، فإنه يُضفي عليه معنى، ويحوّل المعاناة إلى تجربة ذات دروس يُمكن الاستفادة منها. ومن علم أن قدره من عند الله، وأن له غاية أسمى من دنياه، لم يتوقف طويلًا عند شكل البلاء، بل نظر إلى مغزاه، وتحمل مشقته بروح موقنة بأن كل شيء يسير نحو حكمة، حتى وإن خفيت عليه معانيها. بعد أن يعيد الرضا تشكيل وعينا ويهذّب أفكارنا تجاه الألم والخوف والحزن والفقد، ينشأ وعي أعمق، ومراقبة داخلية تمنحنا القدرة على الثبات. ومن هنا، يتُفعّل مقام الصبر، ويستيقظ اليقين؛ ما يسمح لنا بالرسوخ حين تميل الحياة، وبالاستبصار حين تعمى البصائر، وبرباط على القلوب حين تضطرب. ذلك هو الرضا: ليس غياب الألم، بل سكينة في حضرته، وليس استسلامًا للعجز، بل حضورًا متوازنًا بين فعل الأسباب وقبول ما لا يُغيّر. وفي الختام، ليس الرضا بالقدر لحظة هدوء عابرة، بل مسارٌ طويل من التخلية والتحلية: تخليةٌ عن التعلق بما لا يدوم، وتحليةٌ بحب من لا يتغير. هو تمرينٌ روحي، ومقام عبادة قلبية؛ لنكون في سلام مع ما يأتي، لا عن ضعف أو عجز، بل عن ثقةٍ في حكمة من دبّر الأمر، ورضًا بما كتب لنا، ويقينٍ بأن الخير لا يكون دائمًا فيما نريد، بل فيما يختاره الله. (فبات يُريني الخطب كيف اعتداؤه وبتُّ أريه الصبر كيف يكون).. الأبيوردي أبو المظفر.