المشهور عليه أن يعي بواطن الأمور قبل أن يقترب من ظاهرها، وأن يدرك أن الكلمة في الفضاء العام سلاحٌ يقطع أكثر مما يُصلح، وأن الجمهور قد يغفر السهو لكنه لا ينسى الغرور، فكلما ازداد عدد المتابعين ازدادت المسؤولية لا مساحة العبث، وأن الصمت أحيانًا أكثر حكمة من الكلام لأن من يتكلم في غير مجاله يعرّض نفسه للانكشاف.. ثمة عقلية غريبة تسكن بعض مشاهير التواصل كأنهم يعيشون هوس الحضور الدائم في واجهة الضوء لا يحتملون أن يمرّ حدث اجتماعي، أو قضية إنسانية دون أن يقفزوا إليها كقفزة المتطفل في مجلسٍ لا يعرف أهله، ولا سياق حديثهم يتكلمون لأنهم لا يحتملون الصمت ويتدخلون لأنهم يخافون الغياب، فيختلط صوتهم بالضجيج، وتضيع الفكرة بين الرغبة في الظهور والجهل بما يقولون. إنهم لا يدركون أن لكل مقامٍ مقال، وأن للصوت زمنًا ومجالًا، والحضور في غير موضعه حتى لو سهوا وغير عمد فهو انكشافٌ فاضح يفضح صاحبه أكثر مما يعرّفه حين يظن أنه يشارك في الحوار بينما هو يقتحم ساحة لا يجيد لغتها ولا يفهم رموزها. بعضهم يرى في كل أزمة مادة محتوى، وفي كل قضية منبرًا للعرض، وفي كل ألمٍ فرصة لزيادة المتابعين، فيتحدث بسطحية واندفاع لا يليق بعقلٍ ولا بذوق وكأنه يعيش في سوقٍ مفتوحة للعواطف والانفعالات لا في فضاء إنساني تحكمه القيم والمعايير، يخلط الجد بالهزل والحقيقة بالرأي والموقف بالتصفيق، فيبدو المشهد خليطًا من التطفل وسوء التقدير. المشكلة ليست في الرأي بحد ذاته بل في الوعي بحدوده، فحين يتحدث من لا يدرك عمق الموضوع في قضايا المجتمع الحساسة أو في شأن يمس القيم والعادات يتحول إلى عبء على نفسه وعلى متابعيه، لأن كلماته تُقاس بمكانته لا بمضمونها، فالمجتمع رسم له صورة ذهنية محددة يراه من خلالها، فإذا خرج عنها خسر شيئًا من توازنه وكثيرًا من احترامه. إن المشهور الذي صنع حضوره من الترفيه أو التجميل أو القصص اليومية ليس مضطرًا لأن يتحول بين ليلة وضحاها إلى محلل اجتماعي أو فقيه أخلاقي أو ناقد سياسي، لأن صورته المرسومة في ذهن الناس لا تسمح له بتجاوز الإطار الذي عرفوه به، وما يراه مشاركة قد يُرى تدخلاً، وما يراه وعياً قد يُعد تطفلاً، وما يظنه جرأة قد يُحسب وقاحة. ثم تأتي النهاية المتكررة التي حفظها الجمهور كالمشهد الختامي لمسرحية باهتة اعتذارٌ بلغة الانكسار ودموعٌ باردة لا تشبه الندم يكتبها فريق العلاقات العامة وينشرها في بيان متأخر بعد أن تهدأ العاصفة فيظن أنه أغلق الباب؛ بينما ترك في الذاكرة شرخًا لا يلتئم، ذلك لأن الخلل لم يكن في الخطأ العابر بل في غياب البصيرة منذ البداية. المشهور عليه أن يعي بواطن الأمور قبل أن يقترب من ظاهرها، وأن يدرك أن الكلمة في الفضاء العام سلاحٌ يقطع أكثر مما يُصلح، وأن الجمهور قد يغفر السهو لكنه لا ينسى الغرور، فكلما ازداد عدد المتابعين ازدادت المسؤولية لا مساحة العبث، وأن الصمت أحيانًا أكثر حكمة من الكلام لأن من يتكلم في غير مجاله يعرّض نفسه للانكشاف. وفي زمنٍ تتكاثر فيه المنابر وتتشابه الأصوات يصبح التميّز ليس في كثرة الحديث بل في دقة الاختيار في أن يعرف الإنسان متى يتحدث ولماذا ولمن، وأن يفهم أن الشهرة لا تعطيه حق الفتوى في كل شأن ولا تمنحه عصمة الرأي في كل حدث، وأن وعيه بحدوده هو أول علامات نضجه، أما التطفل فهو سقوطٌ هادئ يلبس ثوب الجرأة. كل حدثٍ اجتماعي حساس يحتاج إلى من يتأمله لا من يستغله، وإلى من يضيف إليه لا من يستهلكه، والمجتمع لا يطلب من المشهور أن يكون مثقفًا في كل شيء؛ بل أن يكون محترمًا في صمته، مسؤولًا في ظهوره، واعيًا في اختياره، لأن أثره لا يتوقف عند الكلمة بل يمتد إلى سلوك أجيال تتعلم من ملامحه قبل عباراته. ولذلك فإن أجمل ما يملكه المشهور هو أن يعرف مقامه في الكلام ومكانه في التأثير، وأن يختار أن يكون ضوءًا صادقًا لا وهجًا زائفًا، لأن البريق الذي يأتي من التطفل قصير العمر حتى لو كان غير مقصود، والاحترام الذي يأتي من الحكمة خالد في الوجدان، فليس العيب أن يجهل الإنسان موضوعًا؛ بل أن يتحدث فيه دون وعي ولا حاجة ولا دعوة.