في كتابه «موافقة العقل للنقل عند ابن تيمية: دراسة تحليلية لكتاب درء التعارض»؛ قدّم أ. د. ياسر قاضي عرضاً لمنطق ابن تيمية في كتاب «درء تعارض العقل والنقل»؛ وإن قال إنها دراسة تحليلية، فقد كانت الدراسة متميزة في عرض السياق الذي خرج فيه كتاب «درء تعارض العقل والنقل»؛ ردّاً على كتاب الرازي «تأسيس العقل»، ولم يكن هذا أوّل ردّ لابن تيمية على الرازي، بل ردّ عليه في «بيان تلبيس الجهميّة». ورده اللاحق على «تأسيس التقديس» ردٌ لما سمّاه القانون الكليّ، بوصف كتاب الرازي أقوى ما جادت به المدارس الكلامية، في مقابلة بين «العقل والنقل»، فيُسقط أعلى الحجج عند المتكلّمين، ومن نافلة الرد إسقاط ما دونها. والذي لم يتنبّه إليه أ. د. قاضي، أو قد تنبّه ولم يهتم، هو أنّ ابن تيمية هنا لم يأت بمنهجيّة غريبة عن «عالم المحدّثين والفقهاء»، وإن كانت قد تبلورت من تراكمات تداخل العلوم في المجال الإسلامي، بين شرعيّات ومنطقيّات. فابن تيمية قد اختزن الفرق بين «التعارض» و»التناقض»، فالتناقض لا يمكن أن يقع بين الأدلّة الشرعية (عند المحدثين بين سنة وسنة أو كتاب وسنّة، وعند الأصوليين بين الأدلة الشرعية)، فمن طريق المحدثين لا يقع التناقض حقيقة في الأدلة الشرعية، إنما هو تعارض ظاهريّ، ويسمّى «موهم التعارض»، فهو نسبيّ لا حقيقيّ، وله عدّة أسباب توقعه، منها: عدم بيان وجه الخصوص والعموم، أو المطلق والمقيّد، أو اختلاف الروايات لوهم الراوي، أو لالتباس فهم المجتهد، اختلاف الحالين بين النصين، أو لحقيقة ومجاز... أمّا المستفاد من المسالك العقلية فهي شروط تسمّى ب»الوحدات الثمان» وهي: اتحاد الموضوع، أو المحمول، أو الزمان، أو المكان، أو الشرط، أو الإضافة، أو الكل والجزء، أو القوّة والفعل. فحوّرها المحدّثون إلى شروط: اتحاد المحلّ، واتحاد الوقت، الاختلاف بين الإثبات والنفي، والقطعيّة في الثبوت والدلالة. ومراتب حلّ أو درء التعارض عندهم ب: الجمع بين النصين، أو النسخ، أوالترجيح أو أخيراً وأندره: التوقّف. إضافة لمنهجيّة أصول الفقه في رفع التعارض، فجمع ابن تيمية بين هذه المعارف كلها، ليثبت أنّ «التعارض» هو الموهم للتناقض فيما يظهر، وعند التحقيق فلا تناقض، فابن تيمية لا يردّ فقط وفق سياق كلاميّ، بل يعيد توظيف العلوم التي تمكّن منها، وخرج من بيئتها، وهي ما اتصل بعلميّ «مختلف الحديث» و»مشكل الحديث» و»أصول الفقه»، والعلمان الأوّلان من العلوم التي تردّ على مدارس المتكلمين المتقدّمة في مقابلتهم بين الأحاديث، أو بين الأحاديث والقرآن، قبل تبلور الأدوات العقليّة المتأثرة بالفلسفات المنقولة، إضافة لرفع التعارض في أصول الفقه الذي يوسّع من الأدلّة. ولمّا كان كلام الرازي في «تأسيس التقديس» أساسه إضمار مقدّمة «التعارض بين العقل والنقل»، فصّل ابن تيمية دلالة «العقل» و»النقل»، مستصحباً التمييز بين «التعارض» و»التناقض»، ثم هل العلاقة بين العقل والنقل تناقض حقاً أم تعارض بسبب الالتباس الدلاليّ؟ فردّ الرازي إلى أصالة الأمر وأساسه الذي غاب عن الرازي وهو: المقابلة المفضية للتناقض، وهي: التقابل بين قطعي وقطعي؛ حينها يقع التناقض، لا أنّه كما توهّم الرازي من مقابلة بين العقل والنقل، إذ وهم تعارض، فنهض لردّه. قال ابن تيميّة: «وحينئذٍ فلو تعارض دليلان قطعيان، وأحدهما يناقض مدلول الآخر، للزم الجمع بين النقيضين، وهو محال، بل كل ما يعتقد تعارضه من الدلائل التي يعتقد أنها قطعية فلا بدّ من أن يكون الدليلان أو أحدهما غير قطعي، أو أن لا يكون مدلولاهما متناقضين، فأما مع تناقض المدلولين المعلومين فيمتنع تعارض الدليلين»، فمن هذا النصّ يتبيّن أصل رؤية ابن تيمية وفق منهجية حديثية أصوليّة بين «تناقض» محال، و»تعارض» لوهم. وهذا الأمر غاب عن المؤلّف، وغاب عن كثيرين ممن نظر في كتاب ابن تيمية «درء تعارض العقل والنقل»، رغم أنّ ابن تيمية ذكر في عنوان الكتاب كلمة «تعارض»، فضلاً عن التنبيه داخل محتواه. فابن تيمية تبنّى منهجية المُحدّثين والأصوليين هنا للردّ على الرازي، لا مجرّد الرد، ولا مجرد استعمال الأساليب المنطقيّة أو الجدلية.