الحياة ليست ساحة مكتظة بالممتلكات والناس والعادات، بل مسار نحتاج أن نعرف فيه متى نضع، ومتى نرفع، متى نضيف، ومتى نحذف، فمن امتلأت يده بكل شيء ضاعت منه القدرة على الإمساك بما هو جوهري، ومن عرف أن النقص ليس عيبًا بل حكمة أدرك أن الحذف ليس خسارة بل ربح مضاعف.. الحياة الهادئة ليست هبة مجانية ولا وعدًا مؤجلًا، إنما هي ثمرة اختيار وشجاعة حذف، فليست السعادة في كثرة ما نملك بل في قلة ما يثقل أرواحنا، إن الذي يريد الراحة لا يضيف أشياء إلى يومه بقدر ما يتخفف من الأثقال التي تعيق قلبه عن الانطلاق، فالسر ليس في جمع المزيد بل في شجاعة النقص الذي يكمل. أول ما ينبغي حذفه هو ضجيج المقارنات، ذلك الهمس الخفي الذي يجعل الإنسان أسيرًا لصورة الآخرين وظلالهم فما من شيء ينهش السلام الداخلي مثل مراقبة ما عند الناس وقياس الذات عليهم كل إنسان يعيش رحلته الخاصة وزمنه المختلف فلا يليق أن نقيس نضج الشجرة بأزهار غيرها، ولا نطلب من النهر أن يجري بسرعة الريح، إذا أردنا الهدوء فلنحذف هذا الضجيج من وعينا ولنصغِ لصوتنا الداخلي فقط. ثم هناك عبء العلاقات المرهقة تلك التي تسرق طاقتنا ببطء وتتركنا جافين من الداخل، الناس الذين يزرعون فيك شعور النقص أو يحولونك إلى ساحة لشكواهم الدائمة أو يطلبون منك أن تكون مرآة لخيباتهم هؤلاء لا ينبغي أن يبقوا في دائرة قربك، فالحياة أقصر من أن تنفقها في خدمة ظلال الآخرين، الراحة تقتضي أن تكتفي بعلاقات تشبه النبع الصافي تعطيك كما تأخذ منك وتترك فيك أثرًا يشبه الطمأنينة. أما العادات المستنزفة فهي لصوص صامتة يتخفون في شكل تسلية أو عادة يومية لكنها تنخر في الروح، تصفح بلا نهاية ومتابعة الأخبار كأنها أوكسجين لا غنى عنه والمبالغة في العمل حتى يبهت القلب، هذه كلها ليست علامات حياة بل صور لإنهاك مستمر لا يثمر سلامًا ولا يورث راحة، الراحة الحقيقية في الاقتصاد في الحركة والاكتفاء بما يغني عن الزوائد فالسكينة لا تزدهر في أرض مزدحمة وإنما في أرض أفرغناها من الفوضى. وفي قلب الفوضى المكانية يكمن انعكاس الفوضى الذهنية فالبيت المزدحم بالمقتنيات التي لا نحتاجها والمكتب المثقل بالأوراق والمهام المؤجلة والرفوف التي تعلن عن عشوائية خفية كل هذا ينعكس مباشرة على صفاء النفس، التبسيط هنا ليس أسلوبًا جماليًا بل فلسفة عميقة تعيد ترتيب الداخل عندما نحذف الزوائد من المكان نمنح الروح رسالة بأننا نبحث عن الضوء لا عن الغبار. ولا ننسى الأفكار السامة التي تعكر المزاج وتغلق أبواب السلام، الحقد والحسد والحرص على إرضاء الجميع والخوف المفرط من الفشل كلها قيود ثقيلة لا تصنع نجاحًا بل تسرق العمر، الفلسفة البسيطة التي تحررنا تقول إن ما يخرج منك يعود إليك وإن من يسعى إلى إرضاء كل العيون سيفقد عينه الداخلية التي تبصر الحقائق، أما الخوف فليس سوى قيد وهمي يكبر كلما استسلمنا له ولا يتلاشى إلا حين نمشي رغم وجوده. هكذا تصبح الحياة المريحة مشروع حذف مستمر، حذفاً للأصوات التي لا تنتمي إلينا، حذفاً للوجوه التي تستنزف قلوبنا، حذفاً للعادات التي تتنكر في ثياب التسلية وهي في جوهرها قيود، حذفاً للفوضى التي تحاصرنا في المكان والزمان، حذفاً للأفكار التي تصغر من قيمتنا، حين نحذف نصبح خفافًا، وحين نصبح خفافًا نقدر أن نمشي في الدرب الطويل بلا عناء. الفلسفة الأعمق أن الحياة ليست ساحة مكتظة بالممتلكات والناس والعادات بل مسار نحتاج أن نعرف فيه متى نضع، ومتى نرفع، متى نضيف، ومتى نحذف، فمن امتلأت يده بكل شيء ضاعت منه القدرة على الإمساك بما هو جوهري، ومن عرف أن النقص ليس عيبًا بل حكمة أدرك أن الحذف ليس خسارة بل ربح مضاعف، الراحة لا تسكن في بيت أكبر ولا في حساب أثقل، بل في روح أزالت ما لا ينتمي إليها وأبقت فقط ما يضيء الطريق. ويبقى القول: عندها ندرك أن الحياة الهادئة ليست حلمًا بعيدًا ولا فلسفة مثالية إنها فعل يومي يبدأ بأمر الله كل صباح حين نختار أن نحذف ما يرهقنا ونحتفظ بما يمنحنا المعنى.