في عالم تتسارع فيه خُطى التقنية، وتسود فيه الخوارزميات بتشكّلاتها المعقّدة، يبرز الذكاء الاصطناعي اليوم باعتباره القوة الأكثر تأثيراً في تشكيل أنماط الحياة والمعرفة، بل إنه يتجاوز حدوده التقنية ليغدو سلطة ثقافية واقتصادية تفرض حضورها على كلّ المجتمعات، فلم يعد مجرد أدوات ذكية، بل غدا فضاءً فاعلاً ومؤثّراً قادراً على أن يعيد صياغة علاقتنا بالتراث والذاكرة والابتكار. وهنا تبرز مكتبات المستقبل بوصفها نموذجاً لهذا التحول؛ فهي لا تكتفي بحفظ المخطوطات والمقتنيات، بل توظّف الذكاء الاصطناعي في صون الهوية الوطنية وإتاحة المعرفة عالمياً، لتجعلَ الثقافة أكثر قدرة على مواجهة تحديات العصر والانفتاح على المستقبل. اليوم، تواصل مكتبة الملك فهد الوطنية ريادتها، وأخذها بثمرات المعرفة، والتطوير، والعصرنة، في توجُّه نحو نموذج «مكتبات المستقبل» في مزاوَجة واعية، وخطوة استراتيجية تعكس الحفاوة والاعتناء الأصيل بالمخطوطات والمقتنيات النفيسة، وبين الاستثمار الخلّاق الواعي والجاد في فضاءات التحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي. هكذا بدت لنا مكتبة الملك فهد الوطنية، من خلال ما أكده الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز، المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين، رئيس مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية، من أن المكتبة تعمل على مواكبة مستقبل التقنية والتحول الرقمي، مع استمرارها في رعاية المخطوطات ونوادر الكتب والمقتنيات، مبيّنًا سموه أن هذا التوازن يُسهم في إتاحة محتواها وخدماتها للمستفيدين داخل المملكة وخارجها، والوصول بها إلى نموذج «مكتبات المستقبل». وعزز سموه هذا التوجّه التقني خلال زيارته لمقر الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، وشهادته توقيع مذكرة تفاهم بين مكتبة الملك فهد الوطنية و»سدايا»، لتعزيز التعاون في مجالات البيانات والذكاء الاصطناعي، وكذلك تمكين المكتبة من الاستفادة من قدرات «سدايا» في تحليلات البيانات والنماذج التحليلية والدراسات، والمشاركة في المنصات والبرامج الوطنية للبيانات، إلى جانب تطوير مبادرات مشتركة في مجالات الذكاء الاصطناعي والابتكار، وتنفيذ برامج تدريبية متخصصة في إدارة البيانات وحمايتها، والتعاون في تنظيم الفعاليات والمعسكرات التدريبية، ودعم الابتكار وريادة الأعمال الرقمية. ولا شك أنها خطوة إستراتيجية ستعزز البنية التقنية للمكتبة والتحول الرقمي في إدارتها وخدماتها، وبما يحقق تكامل الجهود الوطنية ويعزز مكانة المملكة الريادية في مجالات البيانات والذكاء الاصطناعي، تماشيًا مع مستهدفات رؤية المملكة 2030. إن ما تشهده مكتبة الملك فهد الوطنية ليس تحديثاً تقنياً فقط، وإنما إعادة تعريف لدور المكتبة في القرن 21، وترسيخ لمكانتها كبيت أمين لتاريخ الوطن، وحاضنة للكتاب، والمخطوط، عبر الأقنية المختلفة، بما فيها الرقمية، لتظلّ رمزاً ثقافياً ومعرفياً يحمل هوية المملكة وتاريخها العريق.