من مدرسة الشرطة إلى الروبوتات والطائرات المسيرة منذ أن أرسى الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود دعائم الدولة السعودية الحديثة، كان الأمن في مقدمة أولوياته وأساس مشروعه لبناء وطن موحد ومستقر. فقد أدرك أن أي نهضة لا يمكن أن تقوم إلا على الاستقرار والطمأنينة، فجعل من تحقيق الأمن غايته الأولى، وقال في أحد مناشيره الشهيرة: "إن البلاد لا يصلحها غير السكون.. إني أحذر الجميع من نزغات الشياطين والأهواء التي يترتب عنها فساد الأمن"، لتكون هذه الكلمات بمثابة دستور مبكر لمنظومة أمنية شاملة أرادها أن تحمي الإنسان والمجتمع وتكفل للدولة هيبتها. بدأت ملامح التنظيم الأمني تظهر بوضوح مع دخول الحجاز إلى حكم الملك عبدالعزيز، حيث أنشأ أول نواة للشرطة في مكةالمكرمة عام 1344ه، وأتبعها بإنشاء إدارات للشرطة في جدة والطائف، وأسند إليها مسؤوليات النظام وحماية الأرواح والممتلكات وتنفيذ أوامر الحكومة. وفي عام 1354ه تأسست مدرسة الشرطة في مكة لتخريج الضباط والمحققين، وكانت مدة الدراسة فيها سنة واحدة يتلقى الطالب خلالها العلوم الأمنية والتحقيق الجنائي والطب الشرعي، لتكون أول مؤسسة متخصصة تمد مديرية الأمن العام بالكوادر المؤهلة. ومع التطوير المستمر تحولت المدرسة لاحقًا إلى كلية للشرطة تابعة لوزارة الداخلية، وأسهمت في بناء أجيال من رجال الأمن القادرين على حماية المجتمع. نظام مديرية الأمن العام وأمن الحدود ومع توسع مهام الدولة، صدر عام 1369ه نظام مديرية الأمن العام الذي نظم العلاقة بين الشرطة وبقية أجهزة الدولة وحدد مهامها في حفظ النظام وصيانة الأمن وتنفيذ الأوامر وحماية الأرواح والممتلكات. ولم يقتصر الاهتمام على المدن فحسب، بل امتد إلى السواحل والحدود، فأنشأ الملك عبدالعزيز مصلحة خفر السواحل التي تولت حماية الموانئ والمرافئ ومكافحة التهريب والتسلل، ثم تطورت لتصبح جزءًا من وزارة الداخلية ضمن حرس الحدود. وعلى امتداد الحدود البرية، عملت الدوريات الأمنية على مكافحة التهريب ومنع تسلل العناصر المعادية، رغم صعوبة التضاريس وبعد المسافات، ما جعل استقرار الحدود جزءًا أساسيًا من استقرار الداخل. متابعة الملك عبدالعزيز للتنفيذ الأمن ويقول العميد الدكتور إبراهيم بن عويض العتيبي في كتابه "الأمن في عهد الملك عبدالعزيز": إن الملك المؤسس كان يتابع القضايا الجنائية بنفسه، ويأمر بسرعة القبض على الجناة وتنفيذ الأحكام لردع المجرمين، بينما استعانت الأجهزة الأمنية بأسلوب "القيافة" أو تتبع الأثر في مطاردة المطلوبين. وفي المدن، اعتمدت أنظمة الدوريات الليلية والحس الأمني، ثم دخلت الوسائل الحديثة مثل اللاسلكي لتسريع الاتصال. وبرزت هذه الجهود بوضوح في موسم الحج، حيث شهدت المشاعر المقدسة تنظيمًا أمنيًا متقنًا، لاقى إشادة من الحجاج والزوار. امتداد النهج مع أبنائه الملوك هذا النهج الذي بدأ مع الملك عبدالعزيز استمر مع أبنائه الملوك من بعده، وتطور حتى أصبحت المملكة اليوم تملك واحدة من أقوى المنظومات الأمنية في المنطقة والعالم، بأجهزتها المتخصصة في الأمن العام، وأمن الطرق، وحرس الحدود، وقوات الطوارئ الخاصة، والأمن البيئي، وأمن الحج والعمرة، إلى جانب القدرات التقنية التي وضعت المملكة في طليعة الدول. الأمن والذكاء الاصطناعي في الحاضر في عصرنا الحالي، يشهد القطاع الأمني تحولًا نوعيًا غير مسبوق، بفضل الاستثمار المتنامي في التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي، الذي أصبح ركيزة أساسية في تعزيز الأمن الوطني وحماية المجتمع، انسجامًا مع مستهدفات رؤية المملكة 2030. اعتمدت وزارة الداخلية منظومات رقمية متكاملة لإدارة العمليات الميدانية، بدءًا من البلاغات الفورية عبر مراكز الاتصال الموحدة 911 وصولًا إلى منصات الخدمات الإلكترونية مثل "أبشر" و"مقيم"، التي وفرت ملايين المعاملات دون الحاجة إلى المراجعة الحضورية. كما توظف تقنيات الذكاء الاصطناعي في أنظمة المراقبة والتحليل المروري والجنائي، حيث تعمل الكاميرات الذكية على رصد المخالفات تلقائيًا والتعرف على المركبات والأشخاص بدقة عالية، ما ساعد على رفع كفاءة الضبط المروري وخفض نسب الحوادث. كما دخلت الروبوتات والطائرات المسيرة في الخدمة لدعم المهام الأمنية والإنسانية، مثل مراقبة الحدود الشاسعة، ومتابعة الحشود في الحج والعمرة، والمشاركة في عمليات البحث والإنقاذ. وأصبح الأمن السيبراني أحد أهم مرتكزات حماية البنية الرقمية، عبر مراكز متخصصة ترصد الهجمات الإلكترونية وتتصدى لها، وتحمي قواعد البيانات الحيوية للأجهزة الأمنية والخدمية. وتتجلى قصص النجاح في مواسم الحج والعمرة حيث مكنت أنظمة الذكاء الاصطناعي من إدارة حركة الملايين بانسيابية عالية ومنع التكدسات، وفي المرور حيث ساهمت التقنية في تقليل التجاوزات الخطرة عبر الرصد الآلي وربط المخالفات بالأنظمة المركزية مباشرة، وفي مكافحة المخدرات حيث ساعدت أنظمة التحليل الذكي على كشف الشبكات الإجرامية العابرة للحدود وطرق تهريبها. غرس مبارك ما ننعم به اليوم من استقرار وطمأنينة ما هو إلا امتداد لذلك الغرس المبارك الذي زرعه الملك المؤسس، وطوره أبناؤه الملوك حتى وصل إلى حاضر القوة الرقمية، فالأمن السعودي لم يعد مجرد حراسة للمدن والحدود، بل أصبح منظومة متكاملة توظف التقنية والذكاء الاصطناعي، وتستند إلى إرث تاريخي عريق، ليبقى الوطن آمنًا، والمجتمع مستقرًا، والتنمية مزدهرة.