المؤسسات التي تتبنى مبادئ (بيدج) تستطيع أن تنجو من عواصف الأزمات، وتكوّن أداة قياديّة لكل مسؤول اتصال يرغب في صناعة حكاية مؤسسته بأمانة؛ لأن هذه المبادئ تحوّل الاتصال إلى أفعال راسخة تصنع الفارق في وجدان الجمهور وتصوغ سمعة تدوم لأجيال. في زمنٍ تتسابق فيه المؤسسات إلى كسب ثقة جمهورها، وتتصارع فيه الرسائل على عقول الناس وقلوبهم، يبقى السؤال الأعمق: ما الذي يجعل مؤسسةً ما، تُلهم جمهورها وتبني سمعتها على أرض صلبة؟ الجواب المهني اليوم نجده في فلسفة متكاملة للاتصال المؤسسي تقوم على الصدق، والعمل، والإنصات، والاستعداد للمستقبل.. وهنا تتجلّى مبادئ مجموعة المبادئ الأساسية في الاتصال المؤسسي والعلاقات العامة "Page Principles"، التي وضعتها جمعية آرثر دبليو، كدستورٍ أخلاقي يرسم للمؤسسات الطريق إلى خطاب أصيل ينعكس في سلوكها، ويحوّل الأزمات إلى فرص، ويمنحها قدرة على صناعة حكاية ثقة تدوم. آرثر دبليو بيدج هو نائب الرئيس للعلاقات العامة في شركة AT&T مطلع القرن العشرين، وواضع فلسفة كاملة تقول إن سمعة المؤسسة انعكاس لما تفعله قبل أن تكون انعكاسًا لما تقوله، وإن القرارات الإدارية يجب أن تمر عبر بوابة يكون أثرها المباشر على الجمهور وثقتهم بالمؤسسة، دون بيانات صحفية مهترئة أو سببية فقط! رغم أن بيدج نفسه لم يكتب هذه المبادئ صراحة، فإن الجمعية جمعتها من كتاباته وخطبه، وقد اعتبروها من المراجع الأساسية لأي محترف في الاتصال، وهي تلخص فلسفته في الاتصال المؤسسي بأن الحوار يجب أن يكون شفافًا، مبنيًا على الثقة، ومستعدًا للمستقبل. لذا في عالم الاتصال المؤسسي الذي تتسارع فيه الرسائل وتتزاحم فيه الأصوات، تظل الشفافية والبصيرة القيمتين اللتين لا يمكن التفريط بهما. وهنا تبرز مبادئ بيدج كدستور أخلاقي ومعيار مهني يوجّه المؤسسات نحو بناء الثقة وتأسيس علاقة صادقة مع الجمهور. هذه المبادئ السبعة تبدأ من مبدأ (قل الحقيقة)، وهي دعوة صريحة إلى تقديم صورة عادلة ودقيقة عن هوية المؤسسة ورسالتها، فلا مجد لمنظمة تُخفي أخطاءها أو تزيف واقعها. ثم يأتي المبدأ الثاني (أثبت الأمر بالفعل)؛ لأن الأقوال بلا أفعال أوراق هشّة في مهب الريح؛ فصورة المؤسسة تتشكل بنسبة 90 ٪ من أفعالها و10 ٪ فقط مما تعلنه من شعارات. المبدأ الثالث (الإنصات لأصحاب المصلحة) ويدعو إلى الحوار الحقيقي مع الموظفين والعملاء والمستثمرين والمجتمع، بحيث تكون ملاحظاتهم وتوقعاتهم جزءًا من عملية اتخاذ القرار، وليست مجرد بيانات في استطلاع رأي كما يعتقد البعض! ويلي ذلك المبدأ الرابع (الإدارة من أجل المستقبل)، وهو ما يعدّ رؤية استباقية تمنح المؤسسة القدرة على بناء رصيد سمعة إيجابي قبل الأزمات لا بعدها، والاستعداد لما قد يحدث بدل الاكتفاء بردّ الفعل. أما (تعامل مع الاتصال وكأن المؤسسة بأكملها تعتمد عليه) فهو المبدأ الخامس الذي يعدّ بمثابة إعلان واضح بأن الاتصال المؤسسي وظيفة استراتيجية، لها أثر على البقاء والنمو، وليست نشاطًا ثانويًا فقط. كما يبرز المبدأ السادس.. (روح المؤسسة تتجلّى في موظفيها)، والذي يُذكّر بأن الموظفين هم رسل السمعة، وسفراء القيّم، وما لم يُمكَّنوا من الوعي الكامل بقيم المؤسسة فلن يستطيعوا التعبير عنها بصدق. وأخيرًا يأتي المبدأ السابع ابقَ هادئًا وصبورًا ومتحليًا بروح الدعابة، خصوصًا عند إدارة الأزمات، حيث يكون الثبات النفسي والاتزان الإعلامي أعظم وسائل حماية السمعة. هذه المبادئ لم تكن تنظيرًا أكاديميًا أو إداريًا ولكنها أثبتت أنها بوصلة عملية أثبتت فاعليتها عبر عقود؛ فقد جسّدتها شركة تويوتا (Toyota) حين واجهت أزمة سحب ملايين السيارات عام 2010 بسبب مشاكل في دواسات السرعة، إذ خرج رئيسها التنفيذي أكيو تويودا إلى مؤتمرات صحفية عالمية، واعتذر علنًا أمام الكونغرس الأميركي، وأطلق برنامج استدعاء شامل مع تعويضات وإصلاحات مجانية، فطبّق مبدأ قول الحقيقة ومبدأ إثبات الأفعال واستعاد ثقة العملاء حتى عادت الشركة إلى صدارة المبيعات العالمية خلال عام واحد. وفي المنعطف نفسه، نستشهد بمثال آخر حديث تجسده شركة (Airbnb) في ذروة جائحة كورونا عام 2020، حين أعلن المؤسس والمدير التنفيذي برايان تشيسكي في خطاب مفتوح تسريح جزء من القوى العاملة بلغة شفافة وإنسانية، شرح فيها القرارات المؤلمة ووعد بحزم دعم وتعويضات سخية وبرامج مساعدة لإيجاد وظائف جديدة للمسرّحين، ليحوّل أزمة داخلية إلى لحظة كسب احترام عالمي وتقدير لمصداقية الشركة. هذه النماذج تبرهن أن المؤسسات التي تتبنى مبادئ بيدج تستطيع أن تنجو من العواصف، وتخرج منها أكثر قوة واحترامًا، لتكون أداة قيادية لكل مسؤول اتصال يرغب في صناعة حكاية مؤسسته بأمانة لأن هذه المبادئ تحوّل الاتصال من عملية بثّ إلى حوار حي، ومن كلمات عابرة إلى أفعال راسخة تصنع الفارق في وجدان الجمهور وتصوغ سمعة تدوم لأجيال.