إن صناعة الحب والسلام العاطفي أمر محتم يتوجب على صناع الدراما والفنون إتقانه، ذلك لأن المعرفة بكل أدواتها هي ما تصنع الشارع وتصنع الوعي وتقيم القيم والأخلاق، فجفاف المشاعر الأسرية هو مسؤولية الكُتّاب ومسؤولية الإعلام لاستعادة الحب المفقود.. ما الذي يجعلنا نستلهم الحب وآلياته في مثل هذه الأيام؟ تساءلت كثيرا عن إلحاح الفكرة وتناولها بعيدا عن التعقيدات الأكاديمية الجافة، ولنذهب إلى نزهة في واحة وارفة، نرتشف عبيرها ونتنسم نسيمها الأخاذ علنا نشعر بشيء من الهدأة والألفة، فإن وجدت فذلك كل الخير والبهجة، وإن لم توجد فقد كانت منى، فإن لم تكن أحسن المنى فقد عشنا بها زمنا رغدا. الحب هو شعور بالسعادة نتاج ألفة روحية تنسجم في معطياتها الحسية، وغالبا ما تسيطر عليها العاطفة المتعمقة في الوجدان الذي مكمنه الدماغ والذي يقوم بعملية التمثيل لمادة الدوبامين الذي يبعث على السرور. على المستوى العلمي والمعتمد على الحواس الخمس، ولذا يقول البعض: أحببت بكل الجوارح!، أما على المستوى الاجتماعي فهو ما يطبق عليه الهوى -أي هوى النفس- الذي صنفه فرويد والذي قد يفلت من أوار طيشه من العقل وسيطرته. وقد عرف اصطلاحا بأنه "يشمل مجموعة من المشاعر الإيجابيّة والحالات العاطفية والعقلية عميقة الأثر، تتراوح بين أسمى الأخلاق الفاضلة وأبسط العادات اليومية الحسنة. فمثلًا، يختلف حب الأم أو الأخت عن حب الزوج أو عن حب الطعام، لكن غالبًا ما يشير الحب إلى شعور الانجذاب القوي والتعلُّق العاطفي بالشخص". وقد حدد فلاسفة اليونان القدماء الحب العائلي بستة أشكال. الحب الرحيم، الحب الكامل، حب الرفقة، حب الفراغ، حب بلا مقابل، الحب المتهور. وقد ميز بعض المؤلفين المعاصرين بعض أنواع الحب، مثل الحب الإلهي أو غير المشروط، والحب الملكي، وحب الذات، وحب السواسي (العشق أو الحب العاطفي المفتون). لكننا هنا نناقش الحب بين حبيبين خليلين زوج وزوجة يجمع بينهما رباط وثيق وأمانة ثقيلة حملاها كلاهما دون علمهما بثقلها (ثقل الأمانة). وفي يومنا هذا نلحظ ندرة هذا الشعور بين الأفراد وخاصة الجيل الجديد منهم، وذلك من خلال التقصي وتتبع كثير من المشكلات، وما يعتري الأسر من مشاكل عائلية ومن تزايد أعداد الطلاق وتيتم الأطفال، وكأن هذا الأمر بات أمرا عاديا سهلا، فمصطلح الانفصال أصبح لغة دارجة تلوكها الأفواه في المجالس وبكل بساطة فمن هو الملام في هذا الأمر وما مسبباته؟ فإذا بدأنا بالمرأة وما متطلباتها؟ فسبحان الله عندما نتوقف قليلا عند الآية (26) من سورة القصص حينما (قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) وفي هذه الآية الكريمة يتلخص لنا كل ما تريده المرأة من الرجل الحماية السند الظهر عند الشدائد ومن هنا تتجسد كل معاني الأمان. ثم تأتي الأمانة بأن يكون أمينا عليها وعلى مالها وعلى سريرتها وعلى كل ما يخصها من شؤون الحياة فهو سترها وحصنها الحصين، فإذا ما أحست المرأة بالأمان دون خوف والسند في كل بلية دون خوف، كان ذلك هو خليلها وحبها الذي لا يضاهيه حب في الوجود. أما عن الرجل فله مثل ما عليه ويزيد من حفظ ماله وعرضه وأنسه ومؤانسته وبذل كل ما في الوسع من إسعاده لكي تكتمل دعائم هذا البيت ليستقر وليستظل تحته أطفال أصحاء هم عدة المستقبل وسلاحه. ولكن دعونا نحلل قليلا ماذا في جعبة هذا الزمن، وماذا حدا بنا نحوه من قسوة المشاعر وجفاف الحس والوجدان حتى أجدبت صحراء العواطف وأصبح كل يقيس الآخر بما لديه من مال، وماذا سيقدم من عطاءات وماذا يجنى من ورائه، فأصبح المال فاعلا أساسيا في العلاقات الزوجية في هذا الوقت الذي يزداد شراهة وغلوا مفرطا، وهذا ينسحب على الجنسين للأسف الشديد، لأن المادية بفلسفتها المقيتة قد طغت على الواقع المعاش وأصبحت هي معيار كل شيء. هذا أولا. الأمر الثاني هو تأثير ما يقدم من فنون ومن إعلام يغلب عليه العنف والقسوة، وهذا أمر حتمي أن يصيب المشاعر بالجفاف والخشونة، ولذا كانت عودة الرومانسية في الفنون والآداب أمرا ضروريا لمواجهة مثل هذه المشكلات. نذكر في هذا الصدد أن الفنون الكلاسيكية في القرن السابع عشر الميلادي، حيث كانت تغلب عليها الخشونة والرصانة. فإذا تأملنا منحوتاتهم وتماثيلهم وأعمدتهم وفنونهم المسرحية فسنجد تلك القسوة والقوة والرصانة، لأنهم كانوا يتبعون الفنون الكلاسيكية حتى في فنون المسرح القائمة على الفواجع والمآسي. كما في الرياضة نجدهم يقيمون المصارعة ورياضة رمي الرمح وفنون القتال حتى جفت أحاسيسهم، حتى أنهم كانوا يقيمون حول موائدهم ممرات للتقيؤ ثم الأكل مرة أخرى في منتهى الشراهة والفظاظة. ومن هنا إذا ما قرأنا آدابهم لم نجد ذلك الحس الشفيف الدافئ بالمشاعر، ولعل دفاع سيدني عن الشعر دليل راسخ في محاولة منه لاستعادة العواطف. ولكن بعد حادثة سفينة الميدوزا وما حل بركابها من فاجعة، جُمعت أخشابها وعُمل منها رمز تذكاري، ومن هنا استعاد الأدب العواطف والمشاعر وظهرت لنا المدرسة الرومانسية وكتبت أول مسرحية رومانسية من تأليف الكاتب والشاعر الفرنسي (فيكتور هوغو 1802 - 1885) وهي (مسرحية هيرناني) التي عرضت لأول مرة 1832 في باريس. ومن هنا تدفق الأدب الرومانسي وأصلح ما أفسدته قسوة وجبروت الفنون الرومانية، وبالتالي أصبحت العلاقات المجتمعية -بحسب دارسي علم الاجتماع- في تحسن دائم نتاج ما تكتنفه المشاعر الرومانسية من عواطف لا يصنعها إلا الفن والأدب الرومانسي الذي هو في حد ذاته تعليمي يعلم القيم والأخلاق. إن صناعة الحب والسلام العاطفي أمر محتم يتوجب على صناع الدراما والفنون، ذلك لأن المعرفة بكل أدواتها هي ما تصنع الشارع وتصنع الوعي وتقيم القيم والأخلاق، فجفاف المشاعر الأسرية هو مسؤولية الكتاب ومسؤولية الإعلام لاستعادة الحب المفقود.