خلال عقد واحد فقط، تحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة تجريبية محصورة في المختبرات الجامعية والشركات التقنية الكبرى إلى محرّك رئيسي لإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي. باتت الحكومات تتسابق في إطلاق استراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي، بينما تعيد الشركات متعددة الجنسيات بناء نماذج أعمالها اعتمادًا على قدرات الخوارزميات، فيما يواجه ملايين الموظفين حول العالم سؤالًا مصيريًا: هل سيقود الذكاء الاصطناعي إلى استقرار وظيفي أم إلى موجة بطالة واسعة النطاق؟ لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية إضافية تسهم في تحسين الإنتاجية، بل أصبح قوة قادرة على إعادة صياغة سلاسل القيمة والأسواق في مختلف القارات. من وول ستريت إلى وادي السيليكون، ومن دبي إلى سنغافورة، يتحدث الجميع عن فرص هائلة لمضاعفة الإنتاجية وتسريع النمو الاقتصادي، غير أن خلف هذه الوعود يختبئ تهديد صامت يتمثل في فقدان وظائف تقليدية، واتساع الفجوة الاجتماعية بين أصحاب المهارات العالية والفئات الأقل تأهيلًا. عاشت البشرية عبر قرون طويلة انتقالات اقتصادية متتالية: من الزراعة إلى الصناعة، ثم من الاقتصاد الصناعي إلى الرقمي. ومع ذلك، ما يجري اليوم يفوق كل التحولات السابقة من حيث عمقه وسرعته، إذ إن الذكاء الاصطناعي لا يقدّم أدوات إضافية فحسب، بل يغيّر معادلة العمل نفسها. ففي الماضي، كانت الآلة تكمّل الإنسان وتزيد قدرته، أما اليوم فهي تنافسه مباشرة في مجالات لم يكن أحد يتوقع أن تخضع للأتمتة. أثبتت الرأسمالية قدرتها على دفع عجلة الابتكار وتحقيق كفاءة عالية، لكنها تترك آثارًا اجتماعية قاسية عبر موجات تسريح العمالة. في المقابل، تسعى الاشتراكية إلى فرض ضرائب على استخدام التقنية وتوسيع برامج الدعم الاجتماعي لحماية الوظائف، لكنها تفتقر غالبًا إلى ديناميكية الريادة. ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى قلب الاقتصاد، تتضح الحاجة إلى صياغة نموذج مختلط يجمع بين ديناميكية الرأسمالية وحس العدالة الاجتماعية في الاشتراكية، نموذج قادر على تحقيق التوازن بين الكفاءة وحماية المجتمعات من الصدمات الوظيفية. في نهاية التسعينات، شهد العالم ما عُرف ب "فقاعة الدوت كوم"، حيث تدفقت الاستثمارات إلى شركات الإنترنت الناشئة دون أن تحقق غالبية هذه الشركات أرباحًا، ما أدى إلى انهيار واسع باستثناء بعض الناجين مثل "أمازون" و"جوجل" الذين أعادوا تشكيل الاقتصاد العالمي. اليوم، يكرر التاريخ نفسه مع الذكاء الاصطناعي، إذ نشهد استثمارات بمليارات الدولارات وتقييمات خيالية لشركات ناشئة، في ظل صورة إعلامية تروّج للذكاء الاصطناعي كحل سحري لكل التحديات. لكن الفارق أن الإنترنت مثل قطاعًا جديدًا مستقلًا، في حين أن الذكاء الاصطناعي تكنولوجيا عابرة للقطاعات، تدخل إلى التعليم والطب والصناعة والخدمات المالية. ولئن كان الإنترنت قد خلق وظائف أكثر مما ألغى، فإن الذكاء الاصطناعي يهدد وظائف قائمة بالفعل في مجالات مثل المحاسبة والترجمة وخدمة العملاء. ومن المؤكد أنه سيخلق وظائف جديدة، غير أنها ستكون محصورة في مجالات عالية المهارة، مثل هندسة البيانات وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، بينما ستتراجع وظائف المهارات المتوسطة ذات الطابع الروتيني. تضع النماذج الاقتصادية ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل العلاقة بين العمل والتقنية: الأول يتمثل في الاعتماد المفرط على التقنية مع ارتفاع البطالة والتضخم، والثاني يقوم على الموازنة الذكية التي تحقق إنتاجية مستقرة وعدالة نسبية، أما الثالث فيعكس الإفراط في الأتمتة بما يقود إلى نمو قصير الأجل يرافقه خلل اجتماعي طويل الأمد. وهنا تتضح المعضلة: الإنتاجية وحدها لا تكفي إن لم تتدخل السياسات العامة لتصحيح الاختلالات. في المملكة العربية السعودية، لعبت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) منذ تأسيسها عام 2019 دورًا محوريًا في بناء منظومة وطنية متقدمة. أطلقت "سدايا" الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي بهدف وضع المملكة بين أفضل 15 دولة عالميًا في هذا المجال بحلول 2030، واستقطاب استثمارات ضخمة، وتمكين 300 شركة ناشئة. كما دشنت منصات رائدة مثل "ديم" للسحابة الحكومية الأكبر في الشرق الأوسط، وأرست أطرًا تنظيمية لحماية البيانات وضمان الاستخدام المسؤول للتقنيات، ما منحها اعترافًا عالميًا وجوائز مرموقة. أما في الإمارات العربية المتحدة، فقد تبنت الدولة نهجًا طموحًا بإنشاء وزارة للذكاء الاصطناعي وتحويل أبوظبيودبي إلى مختبرات مفتوحة لتجريب التطبيقات الاقتصادية، ما عزز الكفاءة الاقتصادية وجذب الاستثمارات، مع استمرار النقاش حول حماية الوظائف والعدالة الاجتماعية. عالميًا، أطلقت سنغافورة برنامج "مهارات المستقبل" لإعادة تأهيل العاملين بشكل دوري، فيما منحت كوريا الجنوبية إعفاءات ضريبية للشركات التي تعيد تدريب موظفيها بدلًا من تسريحهم. أما الاتحاد الأوروبي وكندا فيناقشان سياسات "الدخل الأساسي الشامل" لتأمين حد أدنى من المعيشة للجميع. وتكشف هذه التجارب جميعها أن الذكاء الاصطناعي ليس خيارًا تقنيًا فقط، بل قضية اجتماعية واقتصادية تستوجب أدوات سياسية مرنة للحد من الإفراط في استخدامه وتقليل آثاره السلبية مثل التضخم والبطالة والعجز المالي. تمامًا كما فرضت الحكومات ضرائب على التبغ والسكّر للحد من آثارها الصحية، يقترح خبراء الاقتصاد اليوم فرض "ضريبة على الأتمتة" للحد من الإفراط في الاعتماد على التقنية، وإعادة توزيع عوائدها نحو برامج التدريب والتأهيل. ليست هذه الضريبة عقوبة على الشركات، بل وسيلة لضمان استدامة الاقتصاد وتحقيق العدالة الاجتماعية. لكن التحدي هنا سياسي واجتماعي بالدرجة الأولى، إذ يتطلب توافقًا واسعًا وإرادة سياسية لتطبيقه. يدخل العالم عصرًا جديدًا تحدده الخوارزميات أكثر مما تحدده اليد العاملة. غير أن النجاح في هذا التحول لن يقاس فقط بزيادة الناتج المحلي أو رفع الإنتاجية، بل بقدرتنا على الحفاظ على العدالة الاجتماعية وحماية استقرار الوظائف. فالدول التي ستربح هي تلك التي تستطيع تحقيق توازن دقيق بين الكفاءة الاقتصادية والتماسك الاجتماعي. وفي نهاية المطاف، لا يمكن النظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره عدوًا أو صديقًا، بل مرآة لخياراتنا. فإما أن نوظفه لخلق اقتصاد أكثر عدالة واستدامة، أو نتركه يوسع الهوة بين التقنية والإنسان.