في زاوية اللغة نحلق مع الأدب قليلاً فكلاهما عضيد الآخر، مع ثورة الثقافة المتقدة واكتساح الأدب بمجالاته المتنوعة يقفز هذا السؤال عالياً: ماذا يقدم الأدب للإنسان؟ نقول إن الأدب ليس ترفًا ذهنيًّا ولا وسيلةً للتسلية فحسب، بل فعل إنساني عميق الجذور، يلامس وجدان الفرد ويعيد تشكيل رؤيته للعالم. منذ أن خطّ الإنسان أول قصة على جدار الكهوف، كان يسعى عبر السرد والشعر والمسرح والرواية إلى فهم ذاته وفهم الآخر، وإلى البحث عن المعنى في خضمّ الحياة. الأدب مرآة للذات والوجود، فهو يمنح الإنسان فرصةً واعية لرؤية نفسه من الخارج. في الشخصيات التي يصادفها على صفحات الكتب أو يستمع إليها في اللقاءات الثقافية فيجد انعكاسًا لآماله وخيباته، لقوته وضعفه. نحن حين نقرأ أو نسمع عن الآخر، نجدُ أننا نقرأ عن أنفسنا أحيانا. هكذا، يصبح الأدب مختبرًا داخليًّا لتجربة المشاعر قبل أن نواجهها في الواقع. يقرّبنا الأدب من ثقافات وحضارات لم نعشها، ومن تجارب بشرية لم نختبرها. قراءة رواية عن قرية في أقصى الجنوب، أو عن مدينة غارقة في ضباب الشمال، تجعلنا نعيش هناك ونشمّ هواءها ونسمع أصوات أهلها. إنه تدريب دائم على التعاطف وتوسيع أفق الرؤية. كما أنه يصقل الحس الجمالي، يعلّمنا كيف ننصت للكلمات وإيقاع الشعر كما ننصت لموسيقى الكون من حولنا، يجعلنا نرى بناء المشهد في القصة، ولغة الوصف في الرواية. وكل هذه التأملات تمنحنا قدرةً على تذوق الجمال في اللغة والحياة. ومن يعتاد الجمال في النصوص، يصبح أكثر قدرة على البحث عنه في الواقع. وفي عالمٍ سريع الإيقاع، يمنحنا الأدب فسحة التأمل، والتنقل بلا حدود. يُذكّر الإنسان أنه أكبر من ضغوط يومه وأوسع من أفق مكانه. الروايات العظيمة، والمسرحيات الخالدة، والقصائد المضيئة، لا تكتفي بسرد الأحداث؛ بل تحمل رسائل عن الخير والعدالة والحرية. فالأدب قد لا يغيّر العالم مباشرة، لكنه يغيّر القارئ، وهو بدوره يستطيع أن يغيّر العالم. علينا أن ندرك مدى حاجة الإنسان للأدب، في معالجة حياته، إنه غذاء الوعي، وقنطرة الوصول للآخر، وبوصلة تعيدنا إلى إنسانيتنا كلما أضلّتنا الطريق. من يقرأ، يعش حياةً أوسع من عمره، وحكاياتٍ أكثر من تجربته، وحقائق أبعد من مدار بصره.