شهدت المملكة العربية السعودية خلال العقد الأخير تحولات استراتيجية نوعية وضعت الابتكار والبحث العلمي وريادة الأعمال في صميم مشروعها لبناء اقتصاد تنافسي قائم على المعرفة، هذا التوجه لا يقتصر على تحفيز القطاع الخاص أو تطوير الصناعات الوطنية، بل يمتد ليعيد تعريف دور الجامعات، من كونها مؤسسات تعليمية تقليدية إلى أن تصبح محركات رئيسة للإبداع والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. لقد أدركت القيادات الوطنية أن الجامعات، بما تمتلكه من رأس مال بشري مؤهل وبنية تحتية بحثية متقدمة، تمثل أفضل المنصات لتوليد المعرفة وتطبيقها وتحويلها إلى منتجات وخدمات ذات قيمة اقتصادية. ومن هنا برز مفهوم "منطقة الابتكار" الذي ينقل الجامعة من مجرد حاضنة أو مركز أبحاث إلى بيئة متكاملة تندمج فيها جميع عناصر الابتكار؛ من المعرفة والبنية التحتية إلى رأس المال البشري وشبكات الشراكة، لتتحول إلى مركز إنتاج وتطوير ونقل المعرفة. وفي هذا السياق، برز اهتمام هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار بتشجيع الجامعات السعودية على إعادة تقديم نفسها للعالم بوصفها مناطق ابتكار معترف بها دولياً. مفهوم "منطقة الابتكار" وإعادة تعريف الجامعة وفق تصنيف المنظمة الدولية لمناطق وواحات الابتكار (IASP)، يتجاوز مفهوم "منطقة الابتكار" مجرد الحاضنات أو المراكز البحثية، ليطرح رؤية شمولية تعتبر الجامعة كياناً اقتصادياً ومعرفياً متكاملاً. ففي هذا التصور، تصبح الجامعة منظومة مترابطة تتداخل فيها الأبعاد الأكاديمية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث يتحول الابتكار من ممارسة محصورة في المختبرات إلى هوية مؤسسية وأسلوب عمل يومي. ولكي تحقق الجامعة هذا التصنيف الدولي، لا بد أن تمتلك رؤية استراتيجية واضحة، وخطط تشغيلية موجّهة نحو الابتكار، مع ربط البحث العلمي باحتياجات السوق، وتحفيز التعاون بين الباحثين ورواد الأعمال والمستثمرين، إضافة إلى بناء شراكات فاعلة مع القطاعين العام والخاص. غير أن التحدي الأكبر يكمن في التحول من الدور الأكاديمي التقليدي إلى دور خدمي – اقتصادي، بحيث يصبح كل عضو هيئة تدريس، وكل كلية أو مركز بحثي، قادراً على تقديم خدمات معرفية واستشارية مدفوعة للمجتمع. هذا التحول يفتح قنوات جديدة للإيرادات المستدامة، ويعزز من حضور الجامعة في الاقتصاد المحلي، ويرفع من القيمة السوقية للخبرات الأكاديمية، كما يسهم في ترسيخ ثقافة الابتكار وريادة الأعمال داخل المجتمع الجامعي نفسه. وبهذا المعنى، فإن تحول الجامعة نحو تصنيف "منطقة ابتكار" لا يعد مجرد لقب رمزي، بل هو شهادة على نضجها المؤسسي وقدرتها على الجمع بين دورها التعليمي وبين دورها كمحرك للنمو الاقتصادي والاجتماعي في آن واحد. أ. د. عبدالله بن عبدالوهاب الفريدان