في واقع الأمر؛ ما يجمع بين فيلمي «الناقد» و«المعماري» من وشائج منهجية عميقة تجعل من التفكير في مسألة النقد، خصوصًا المعماري، معيارا لاستعادة الطريق القويم الذي قد يضل عنه البعض، لكنه يتطلب في الوقت نفسه منهجًا موازيًا يقوّمه وينتقده وهو ما سماه صديق قديم لي «نقد النقد».. للوهلة الأولى يُظهر عنوان المقال العلاقة الوثيقة بين العمارة والنقد، إذا لا يوجد عمارة متطورة قادرة على مواكبة الجديد وتوظيف البعد الثقافي المحلي وابتكار الحلول الوظيفية الخلّاقة دون وجود نقد منهجي يخلق الفكر المصاحب للمنتج المعماري ويوجهه ويهذبه. إلا أن العنوان مستمد من فيلمين هوليوديين تم عرضهما مؤخرا، أحدهما بعنوان "الناقد"، ويدور حول ناقد مسرحي، والثاني حول معماري "هنغاري" أو "مجري" هاجر بعد الحرب العالمية الثانية وكان يحمل توجها معماريا حداثيا ينتمي إلى المدرسة الوحشية. إذا لا يوجد علاقة بين الفيلمين من الناحية المبدئية، وقد كنت أنوي كتابة مقال مستقل لكل فيلم، لكني وجدتها فرصة سانحة للعودة إلى موضوع النقد المعماري من خلال هذا الربط، خصوصا أن موضوع الفيلمين يحمل جوانب أخلاقية عميقة يتطلبها النقد كما تتطلبها ممارسة العمارة. الفضاء الثقافي والمهني الذي يخوض فيه كلا الفيلمين ينتمي إلى بداية النصف الثاني من القرن العشرين وربما قبل ذلك، وهو فضاء يبين تأثير المبادئ والقيم المرتبطة بالعمل الإبداعي والفكري على المنتج نفسه، لكنهما يبينان كذلك الخلل القيمي الذي قد يعتري بعض البشر عندما يستهينون بتلك القيم ويتجاوزونها دون أن ترفّ لهم طرفة عين. تحكي قصة الناقد المسرحي، كيف لتجاوز المبادئ الأخلاقية أن تدمّر الفضاء الفكري وتجعل من النقد مهنة ممتهنة تخدم المصالح الخاصة، فقد وظّف الناقد تأثيره في الرأي العام المتخصص من أجل استغلال ممثلة ناشئة للإبقاء على وجوده في الصحيفة التي يعمل بها وجعلها تعمل لصالحه للتقرب من صاحب الصحيفة كي يبتزه. نهاية الفيلم تنتصر للأخلاق وتجسد المآل الذي آل له ذلك الناقد، لكن أحداث الفيلم جعلتني أفكر بعمق في "من هو الناقد الجدير بأن نصغي له"؟ وهذا السؤال أحالني إلى القاعدة التي يستخدمها علماء الحديث وهي قاعدة "الجرح والتعديل" وعلم الرجال، وهي قاعدة تُستخدم كذلك في "النقد التاريخي" كونها تضع أساسا تشكيكيا فيما يقال وما يكتب حتى يتم التأكد من نزاهة الكاتب. وأذكر أن أحد الأصدقاء العراقيين أرسل لي، قبل عشرين عاما تقريبا، مقالا لنشره في مجلة البناء وكان عنوانه "نقد النقد المعماري" وكان يهدف إلى عدم الركون إلى قول أي ناقد، فلا يخلو البشر من التحيّز للمصالح والآراء الخاصة، ومن الضروري تطوير توجه فكري موازٍ يهتم بنقد النقد. فيلم "الناقد" يحاول أن يجسد ما يعتري البشر من أهواء وكأنه يحث بشكل مبطن إلى تبني منهج أكثر صرامة وشفافية لجعل النقد مهنة محايدة، لكنه كذلك يشير إلى القيم الذاتية التي يملكها البشر مما يجعل هذه المهنة بحاجة، أكثر من غيرها، إلى نزاهة يندر وجودها، وهذا ما يجعل من مهمة النقد "أمانة" لا يستطيع أن يتحملها أي كان. في المقابل يبين فيلم المعماري القاسي أو المتوحش كيف أن بعض المعماريين يملكون حسا قيميا يجعلهم يضحّون بحقوقهم من أجل المهنة التي يؤمنون بها. الفيلم غير مأخوذ عن قصة حقيقية لكنه دمج عدة قصص لمعماريين "هنغاريين" هاجروا إلى أميركا في نفس الفترة. الممثل الرئيس في الفيلم حاز على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل، وتبدأ أحداث الفيلم بالحالة الرثة للمعماري بعد وصوله لأميركا وتركه لزوجته في بلده الأصلي والصعوبات التي واجهها بعد أن لجأ إلى قريب له وعملا معا في مشروع مكتبة في بيت أحد الأثرياء الذي لم يكن راضيا عن التصميم ولم يعطهما حقوقهما. يجب أن أوضح أن المدرسة الوحشية في العمارة، هي مدرسة إنجليزية تعتمد على البناء بالخرسانة المكشوفة وتطوّرت بعد الحرب العالمية الثانية، وقد كان المعماري معروفا في بلاده وفي أوروبا وقد نشرت عنه بعض المجلات وهذا ما اكتشفه الثري بعد ذلك وزاره في مقر عمله الجديد، وكان المعماري في حالة يرثى لها. تدور أحداث الفيلم بعد ذلك حول مشروع كبير لذلك الثري أسنده للمعماري لكن تحدث أحداث تجعل من المعماري يتنازل عن حقوقه المادية من أجل المحافظة على تنفيذ التصميم الأصلي وينتهي الفيلم بتكريم المعماري في أول بينالي للعمارة في البندقية عام 1980. تعتمد سردية الفيلم على الالتزام المهني والأخلاقي التي أظهرها المعماري، فرغم الظروف الصعبة التي مر بها إلا أنه لم يتخلَ عن التزامه وكأنه ينتقد الحالة التي وصلت لها مهنة العمارة هذه الأيام. يجب أن نوضح أن فيلم المعماري القاسي لم يتطرق لدور النقد إلا من خلال التكريم الذي حظي به المعماري في نهاية حياته، لكنه بيّن أوجها مختلفة من النقد مرتبطة برأي الجماهير، خصوصا سكان المدينة الذين كانوا غير راضين عن المشروع في بعض الفترات وأبدوا معارضة شديدة له. مثل هذا النقد، غير المهني، أحيانا يكون مضللا، فلو تم الاستماع للجماهير لما بني برج إيفل ومركز جورج بومبيدو والتوسعة الهرمية في متحف اللوفر، وكلها في باريس، لكن قد يكون رأي الجماهير أكثر عمقا من الناقد المهني المنحاز الذي تخلى عن مبادئه. في واقع الأمر ما يجمع بين الفيلمين من وشائج منهجية عميقة تجعل من التفكير في مسألة النقد، خصوصا المعماري، معيارا لاستعادة الطريق القويم الذي قد يضل عنه البعض، لكنه يتطلب في الوقت نفسه منهجا موازيا يقوّمه وينتقده وهو ما سماه الصديق القديم "نقد النقد".