ليس كل كتاب يُكمل الطريق معي. أحيانًا أغلقه بهدوء بعد صفحات قليلة، دون ضجة ولا ندم، وكأن شيئًا في داخلي قال: ليس الآن.. أضعه جانبًا، وأنتقل لغيره، دون أن أشعر أني خذلته أو خذلت نفسي، وهناك كتب تحتاج انتظارًا أطول، وذائقتي تتغير كما يتغير مزاجي القرائي، وكتب لا تُقرأ حين نريد، وإنما حينما نكون مستعدّين للعبارات التي تختبئ بين سطورها. لوقت طويل كنتُ أظن أن الكتاب الذي أبدؤه يجب أن يُقرأ من الجلدة إلى الجلدة، وكأن الفائدة لا تُستخلص إلا في الصفحة الأخيرة. ربما هو شعورٌ خفيّ بالذنب، أو نوع من الانضباط غير المعلن، يدفعنا لإتمام القراءة حتى عندما لا نرغب بذلك. نعامل الكتاب كواجب علينا إنجازه، لا كرحلة يمكن أن نتوقف فيها متى ما شئنا. لكن مع الوقت، بدأتُ أرى الأمور بشكل مختلف. بعض الكتب تمنحك ما تريد في أول فصل، وبعضها لا يمنحك شيئًا، ولا بأس أن تغادره دون أن تنتظر النهاية. ليست كل الكتب مكتوبة لنا. بعضها يتكلم لغة لا نعرفها، حتى وإن كانت لغتنا. بعضها يشبه ضيوفًا ثقيلين نُجاملهم على حساب راحتنا، وبعضها ببساطة لا يفتح لنا بابًا ولا يغلقه. وأن تهجر كتابًا لا يعني بالضرورة أنه كتاب سيئ، كما لا يعني أنك قارئ كسول. ربما هو الوقت الذي اخترناه لهذا الكتاب هو وقت غير مناسب، أو السياق النفسي غير متّزن، أو ربما أنت الآن مختلفٌ عما كنت حين اقتنيتَه. ومن أغرب ما اختبرته، أنني عدتُ إلى كتب هجرتها منذ سنوات، وكأن بينها وبيني موعدًا مؤجلًا. قرأتُها حينها بشغف مختلف، كما لو أنها كانت تنتظرني أن أنضج، أو أن أمرّ بتجربة تجعلني أُصغي لها بطريقة أعمق. لم أعد أنظر إلى الكتب التي توقفت عندها باعتبارها إخفاقات. هي ببساطة تجارب لم تكتمل، وربما أعود لها لاحقًا عندما أكون في مزاج مختلف، أو مرحلة مختلفة من حياتي. بعض العناوين كانت بداياتها واعدة، ثم خفتَ الحماس، وهذا طبيعي. لسنا مضطرين لأن نُكمل كل ما نبدأه، لا في الكتب ولا في الحياة. ما يهمني الآن هو أن أكون صادقة مع نفسي: هل أريد أن أواصل لأن الكتاب يهمّني فعلًا؟ أم لأنني فقط لا أريد أن أبدو وكأنني تراجعت؟ بقي أن أقول: «أن تتوقف عن قراءة كتاب، تحترم وقتك، وذائقتك، ورغبتك في أن تقرأ ما تحبّ، لا ما يجب».