هل سبق لك أن قابلت شخصًا غريبًا، فكوّنت عنه انطباعًا لحظيًّا، ثم اكتشفت لاحقًا أنك كنت مخطئًا تمامًا؟ الأمر ليس نادرًا، بل شائع أكثر مما نتصور. عقولنا، رغم قدرتها المذهلة على المعالجة، إلا أنها تميل غالبًا إلى إصدار الأحكام بسرعة، دون انتظار التفاصيل أو التحقّق من الصورة الكاملة. في حياتنا الاجتماعية اليومية، تلاحقنا المواقف وتتسارع الأحداث، ووسط هذا الزحام، نصبح طرفًا – شئنا أم أبينا – في مشاهد تتطلب تفاعلاً أو رد فعل. وتكون النتيجة في كثير من الأحيان: حكم سريع، مبني على مظهر أو سلوك عابر، لا على معرفة أو فهم حقيقي. تأمل هذا الموقف البسيط الذي قد نراه يوميًا: رجل يسير على الرصيف، يحدّث نفسه بصوت مرتفع، ويداه تتحركان بتناسق مع كلماته. من السهل أن نقول: "إنه مجنون"، وربما نضيف: "أكيد متعاطٍ، أو مضطرب نفسيًا". وبعدها بلحظات، نظن أنه فقير لأنه لا يملك مركبة توصله، ثم نكتشف لاحقًا أنه يحفظ القرآن أو يراجع قصيدة، وأنه اختار المشي بملء إرادته لأنه يجد فيه صفاءً ذهنيًا ومتعة روحية. هنا ندرك أن كل تلك الأحكام التي أطلقناها لم تكن سوى انفعالات ذهنية مشحونة بتحيّزات معرفية، كما وصفها عالم النفس الشهير دانييل كانيمان في كتابه "التفكير، بسرعة وببطء"، حيث شرح كيف يميل العقل إلى التفكير السريع، مستخدمًا ما يشبه "الاختصارات الذهنية" التي تُسهل علينا التعامل مع المعلومات، لكنها في ذات الوقت توقعنا في الخطأ. ليس ذلك فحسب، بل يدخل في المشهد ما يُعرف ب"التحيّز التأكيدي"، وهو ميل الإنسان إلى تصديق كل ما يؤيد أفكاره ومعتقداته السابقة، وتجاهل أي معلومة تناقضها. ففي دراسة أُجريت في جامعة ستانفورد، تبيّن أن 60 % من الأفراد ينجذبون تلقائيًا إلى المعلومات التي تُعزز وجهات نظرهم، حتى وإن كانت غير دقيقة أو غير مكتملة، مما يزيد من ترسيخ الأحكام المسبقة. وللأسف، تأثير هذه الأحكام لا يقتصر على الطرف الآخر فقط، بل يمتد ليطالنا نحن أنفسنا؛ فعندما نعيش بعقلية الحكم السريع، نصبح أسرى للشك وسوء الظن، ونفقد فرصة التعرف على أشخاص مميزين أو خوض تجارب جديدة. ومع الوقت، تتراكم هذه النظرة السلبية فتنعكس على حالتنا النفسية، فتضعف ثقتنا بالآخرين وبأنفسنا، وتُغذي الإحباط والتوتر وربما الاكتئاب. فما الحل؟ الحل يكمن في التفكير النقدي؛ وهو مهارة لا تُكتسب بين ليلة وضحاها، لكنها تبدأ من لحظة وعي واحدة. أن نتريّث، أن نطرح الأسئلة بدل الإجابات، أن نتأمل الموقف من عدة جوانب لا من زاوية واحدة، وأن نتدرّب على التحرر من الانطباعات السريعة والأحكام الجاهزة. كما أن الانفتاح على التعلم المستمر، ومخالطة الناس بمختلف ثقافاتهم، يوسّع مداركنا ويجعلنا أكثر تفهمًا ورحمة. وفي الختام، ليس كل ما تراه العين يُخبرك الحقيقة، وليس كل ما تسمعه الأذن هو وجه الواقع، دعونا نؤمن أن كل إنسان هو حكاية، وليس حُكمًا وأن خلف كل مشهد هناك عمق خفيّ لا يُدركه الاستعجال ، فلنمنح أنفسنا نعمة التأني، ولنُربّي في قلوبنا فِطنة الفهم لا فورة الحكم.. ففي ذلك نجاة للعقل، وسلامة للنفس، وإنصاف للناس.