المتابع لطبقة أدعياء المشيخة على القنوات الأرضية والفضائية، سيلحظ بغير مشقة أن هدف هؤلاء ليس الارتقاء بمجتمعهم بل السيطرة على غوغائه، وتحويل الغوغاء إلى طاقة قوة حاضرة في المجتمع يحتسب لها حساب، فيجعلهم أصحاب يد طولى، تجد منهم صحفيين وإذاعيين وإعلاميين يتقاضون أعلى الرواتب وهم مجرد غوغاء. وذلك ليتم توظيفهم سياسيًا عند الطلب، ومثل هؤلاء هم مشكلة حقيقية لأنهم لا يعلمون أنهم غوغاء. ويميل الغوغاء إلى تقدير القوة العضلية وتوظيف قدرتهم البدنية التي تجلب لهم الفخر أكثر من أي قدرات عقلية لا يؤمنون بجدواها، فيعيشون سعداء دون تفكير ولا مسؤولية ويسعدون ويحبون الشيخ لأنه يحترم تفكيرهم البسيط ولا يعيبه عليهم ولا يكلفهم جهدًا عقليًا. وهكذا فإن الغوغاء قوة لا يستهان بها، فهم يتميزون بالإمكانات العضلية وضمور الإمكانات العقلية، فتقوى قدرتهم على إحداث الشغب والقلاقل المجتمعية، بأساليب تخلو من الحياء والخجل، ويميلون إلى حياة الفوضى بما يملكون من غرائز غير محكومة بقيم الضمير السليم، فينفعلون بشدة لأي فعل، ويطلبون النصح والإرشاد في التوافه الهينات مع ضمور ملكة التفكير وموت العقل. وعملًا بمبدأ (رغبة الجمهور)، قام المشايخ يختصرون الدين في مجموعة طقوس وأدعية جاهزة، تؤدي كل المطاليب، جالبة للخير. مع مجموعة أدعية لا تكلف مشقة غير حفظها وترديد المناسب منها عند الحاجة، فمنها ما يبعد الشرور، ومنها ما يقي من العين الحاسدة، ومنها ما يبعد الفقر والمرض. دون أي عناء أو جهد من المؤمنين للتفكير في حل مشاكلهم بأنفسهم. مع انتشار الفضائيات ووسائل الإعلام بدأت المنافسة بين المشايخ وبعضهم، لذلك يسعي كل منهم إلى تقديم أجود ما عنده لمتطلبات السوق، ومن ثم يتم إخضاع الدين لآليات الاقتصاد السوقي حسب قانون العرض والطلب، لنيل إعجاب المستهلكين، فينحدر الخطاب الديني إلى مستوى الدهماء من أصحاب الذوق المتدني غير الرهيف وغير الرفيع، يستهويهم الخبط والرقع والصوت العالي والخرافة والأسطورة، فيهبط الشيخ بالدين من مكانه السامي لمستوى طلب المستهلك، ليرضيهم بمنتجه سعيًا لمزيد من الانتشار والانتصار في المنافسة. يهبط بالدين لمستوى ذوق العوام بمحسنات تعجبهم بينما هي تشينه وتشوهه، لأن الإسلام بصورته البكر على وفاق مع زمنه ومجتمعه ولم يكن بحاجة لدعاة ومغيثين وتزويق ومُحسنات لونية، وعندما يصبح هدف الدعاة هو الحشد العددي للأتباع، فقل على الدين والدنيا السلام. لأن هذا الحشد جاء على حساب سمو الدعوة، وتسطيح الإسلام واختصاره في شعارات سهلة الحفظ والفهم لا تحتاج جهدًا عقليًا لمحاورتها أو مناقشتها أو التأكد من مدى صحتها. وهكذا تجد الشيخ لا يستحي أن يتحدث عن نفسه كنجم محسود، رجل الدين صار يسعى ليصبح نجمًا فنيًا إزاء منافسة شديدة من فنانين آخرين، لذلك يبذل كل جهده ليستهوي الجمهور، بزي مميز، بأسلوب خطابة رنان مسجوع، بطريقة في الإلقاء تقطع وتصل وتصمت وتصرخ وتجأر وتبكي وتسخر في تمثيلية مُحسنة الترتيب، وبجرأة من يملك وحده المعرفة المطلقة والنهائية الصحيحة، والتي يجهلها الجميع، ويجيب على أي سؤال، ويشرح كل غامض. ويعزز الدور الفني للشيخ توزيع الإضاءة في الأستوديو وللديكورات الفخمية والمؤثرات التصويرية والصوتية الملائمة لطبيعة الموقف شاعرية أم حزينة، وكلما انتشر اسم الشيخ زاد توزيع مطبوعاته وإيراداته وتهافتت عليه الفضائيات بعظيم رزقها وجاءته الهدايا من كل صوب، في مقابل تحويل إسلامنا إلى سلعة شعبية كالأغاني الشعبية المتدنية والهابطة، وليته بقي شعبيًا كما كان، فقد اختفى التدين الشعبي الحقيقي أمام مسخ شائه حرّم كل العلوم والفنون ليبقى هو العارف الوحيد والعازف الوحيد. 2002* * كاتب مصري «1947 - 2022»