شاء من شاء، وأبى من أبى، فقد كناّ ننتظرُ من قلب العروبة والإسلام كلمة الفصل في غوغائية أخْوَنَة وأرْهَبَة ربيع مصر معقل العروبة والإسلام.. فمهما كانت السياسة مصالح، فإنّ المواقف النابعة من الشموخ العربيّ الأصيل الذي لم يزلْ يمثله ويمثلنا الملك عبدالله لتأتي برداً وسلاماً على قلوب تحترق خوفاً على كنانة العرب، خصوصاً أننا نتذكرُ بأن ديمقراطية أمريكا التي تنادي اليوم بدمقْرَطة جماعة الإخوان، وتحتفي بتكفيرها المسلمين خارج ميادينها، نتذكر بأن ديمقراطيتها هي نفسها التي رعتها في أفغانستان، وتريد أن تعيد كرّتها لكنْ هذه المرة في ديار العرب، ويتبعها سوى إخوان مصر غوغاء لهم هنا في الداخل، وذيول لهم في بعض دويلاتنا العربية التابعة.. جاءت كلمة الملك حاسمة وفيّة نقيّة نقاء عروبته في وجه هذه الأَرْهَبَة باسمِ الأخونة، ناصعة صادقة ترفو جراح أهلنا في مصر التي لا يحق لعصابات بعينها اختطاف حضاريتها ورياديتها العربية والإسلامية، مهما رعتْ هذا دول اعتادتْ على توجيه واستثمار مثل تلك العصابات.. ذلك لأن ربيع العرب بدأت تظهرُ منه علامات عجز العقل العربي عن استيعاب الفكر الديمقراطي جليّةً.. فعلينا أن نؤمن اليوم -فقط- بضرورة تفكيك هذا العقل، فكثيرا ما كناّ نعتبر من يتحدثون عن هذا مجرد فلاسفة ترِفِين في فكرهم، حتّى كان بعضهم يشبهونهم ببعض نقاّدِ الشِّعر الذين لم يجدوا عملاً فسفسطوا لنا الجمال حتى امتلأت بنتاجهم أدراج المكتبة العربية.. قد يصنّفُ بعضهم هذا الإيمان في باب التمييز الممقوت، غير أن محاولة إلقاء نظرة عامة شاملة على التاريخ قد تنقذنا من هذا التصنيف.. ربما وصل المفكّكون للعقل العربي ذات يوم إلى حقيقة تغني عن النظريات، وهي أنه غير صالح للمفاهيم الديموقراطية، ولا قابل للحيوات العلمية والبحثية، إذا ما استثنيَتْ فيه كثرة الشعراء والمنشدين والخطباء والنقاد والفقهاء والوعاّظ والحفظة للتراث الأصفر الذي لم يتقنْ هذا العقل استيعابه.. وربما استدلّوا على هذا بأكثرية علماء الإسلام من غير العرب عليهم منهم.. ربما توصلوا إلى أن جملة «الإسلام دين ودولة» بالعطْفِ المتراتب بين المتعاطفين جاءت صعبة الاستيعاب على هذا العقل، ففهم نحويوهم ولغويوهم الكثر أن واو العطف تعني شيئين ربطت بينهما الواو لا على سبيل الدمج، بل التفصيل.. آخر دليل على نوعية العقل العربي ما أسموه ربيعاً تحت شعارات: الحرّيّة – العدالة – الكرامة – الديموقراطية.. إلخ. لمْ نشعرْ خلال هذه الثورات الربيعية سوى بامتداد تاريخنا السيّئ عبر القرون الطويلة، فما الفرق بين من رأيتموهم وسمعتموهم من الخطباء الكبار الذين أبهرونا في ميادين مصر، صارخين بأعلى خطبهم على القنوات بأنهم الإسلام دون غيرهم خارج ميادينهم، ما الفرق بينهم وبين من كفّر علياّ ومعاوية منذ أمد، وأساء إلى أمهات المؤمنين والخلفاء الراشدين؟ وهل بلغ العقل العربيّ شأوا لا يدرك نوع خطابهم التكفيري الصريح حتى يجدوا من ينضوي تحت لواء خطبهم؟ وهل بلغ من السذاجة بحيث نسمع ونرى خطيباً مميزاً يقسم أيمانه المغلظة -بل ويحلف بالطلاق 360 مرة حسب قوله الموثق في القنوات وسمعته بنفسي- على أن رئيسه سيدخل عليهم الميدان؟ وهل استمرأ عقلنا العربي سذاجته إلى حدّ أن يتجرّأ أحدهم على إقناع ذوي هذا العقل بأن جبريل حضر مصلاه في الميدان، وأن النبيّ عليه السلام قدّمَ رئيسه ليؤم المصلين والنبيّ؟ وأن هدم الكعبة أهون مما حدث لأحد زعمائهم؟ وهل استمرأ ذاته حتى لم يفكّرْ في أن العدوّ «المعلن» لدى هؤلاء هي أمريكا والغرب، التي تقف معهم الآن -وقبل الآن منذ إمارة أفغانستان- حتى ديموقراطية الإخوان؟ ثم نتّجه إلى الوجه الآخر -المدني- المقابل لهذا النوع من الفكر: أمة تختار رئيسها بصندوق الاقتراع، ثم تفشلُ بقوانينها في تطبيق الديموقراطية التي تنشدها في إزاحته، وتضطرّ إلى ما حدث من قتل الأبرياء الذين أقنعهم تجار الدين بكل المغريات بأنهم فقط أصحاب الحق، ولنا أن نذكر قول ابن رشد: (التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل. إذا أردت أن تتحكم في جاهل فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني). ولنعد إلى ديار الشام والعراق التي بدأ ربيعها ينكشف لكل عقل سوى عقلنا العربي، وبعودتنا يكتمل لنا السؤال الكبير: لمَ لم تعدْ إسرائيل مشكلة العرب الأولى، وباتت مشكلاتهم الكبرى فيهم هم؟ قد نصل إلى استنتاجات لا تروق لكثير منا من دعاة الديموقراطية وفكرة التداولات الشعبية على السلطة، ونعود إلى فكرة الإيمان بالقائد الملهم، ونظرية أن القائد يولد قائداً.. وبمعنى آخر: الغوغاء والعامة الدّهماء التي تخرج في الشوارع غير صالحة لتلك النظرية التداولية، لأن جوهر العقل لديها لا يكفي لاستيعاب المؤثرات ومَنْطَقَتها وحرّيّة قبولها من عدمه، وأمثالها من جماهير الأمم المتحضرة تبني اختياراتها على مصالح دنيوية تعلنها وتحققها الحكومات المنتخبة، ولم تعدْ تستخدم الأديان واللاهوت لدغدغة مشاعر الدهماء، بحيث لن نتخيل معتصمين وخطباء في أحد الأحزاب: الجمهوري – الديموقراطي – حزب العمال.. إلخ يطلبون من عامته أو غوغائه قبول نزول المسيح عليه السلام في ساحته دعما له!! – لقد حُمّلَ هذا الدينُ كثيراً مما لا يحتمله هو أو دين آخر، وحمّلَ العقلُ العربيّ تبعاً لهذا من الاستخفاف ما يجعلنا نطالب الباحثين في بنيويته بإعادة بحثه، وقد يصلون إلى ما رآه ابن تيمية من تفضيل الحاكم القوي الفاسق على الضعيف الصالح، وإلى ترسيخ القيادية في علية القوم لا في عامتهم ودهمائهم، وهذا قد يكون تصديقاً لما قاله القائد العربي الشهير (زياد بن أبيه): (لأنْ ينزل عشرة من العِلْية خير من أن يرتفعَ واحد من السَّفَلَة).. إنّ عدم قدرة العقل العربي على الاستيعاب الديني والدنيوي لفكرة الدولة، وعجزه عن بناء القوانين الصارمة لتعاملها مع شعوبها وقوانينها، سيظل عائقاً يزيد من تفتيت المفَتّت، ولعب تجار السلاح والعقائد بشعوبنا العربية كسوق للهيمنة بين حكام العرب وتجارهم والدول المتحضرة في وضوح أهدافها السياسية والاقتصادية.. وهذا ما يظهر لكل من يستطيع رؤية وضع العراق بعد تحرير أمريكا له ممن لا تريده، وسوريا التي تدارُ أزمتها بلعب مكشوف صريح الظهور، ومصر التي لن يصلح لها حال في الأمد القريب، وليبيا التي لن تستطيع لملمة أمرها حسب شعارات ثورتها، واليمن الذي لا يستطيع اليوم حماية ديبلوماسي شقيق لا ناقة له في الربيع ولا جمل..