أوكرانيا وغزّة وإيران، ثلاثة عناوين لمؤشرات تغييرٍ في النظام الدولي لا يزال قيد العمل والتطوير، إذا بقي «السلام الأمريكي»، أو السلام كما يطرحه دونالد ترمب، ممسكًا بأزمّة الصراعات الجيوسياسية. فأي تسوية لإنهاء حرب أوكرانيا، وفقًا للخطة التي أعدّتها واشنطن و«تميل بشدّة إلى مصلحة موسكو»، ستعني هزيمة لكييف، ومن ورائها الاتحاد الأوروبي الذي شكّل مع «الناتو» ركيزة أساسية للأمن الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الث انية... وأي تسوية في غزّة، وفقًا للقرار الدولي 2803 وبمشاركة دول «مجلس السلام» و«قوة الاستقرار الدولية»، ستحتاج إلى الكثير من عمليات التصويب والتحسين لئلا تبدو فعليًا مشروع استحواذ أمريكي/ استعماري على مساحة عقارية مدمّرة ومطلّة على المتوسط، ولا تحمل في طياتها أي تسوية عادلة للقضية الفلسطينية أو سلامٍ ينهي الصراع في منطقة الشرق الأوسط... وعلى الرغم من الغموض الحالي فيما يتعلق بالمرحلة المقبلة من المواجهة الأمريكية- الإسرائيلية مع إيران، فإن خيارات التفاوض لا تزال معطّلة لمصلحة جولة حربية أخرى يبقى هدفها المعلن ضرب البرنامج النووي، أما هدفها المكتوم فهو إضعاف إيران وزعزعة تحالفها مع الصينوروسيا. لكن التغيير الأهم والأخطر يكمن في أن خطط ترمب تُبنى على الأمر الواقع ورضوخ الطرف الضعيف، سواء كان كييف (المهددة الآن ب«فقد كرامتها أو فقد حليف رئيسي») أو غزّة (صار المهم وقف التجويع ونزيف الدم) أو حتى طهران (المتعبة باقتصاد العقوبات). ولا تسترشد خططه بالقانون الدولي، بل تُطرح ويروّج لها وتلقى القبول ولو على مضض، فتصبح هي قانونًا دوليًا ولو هجينًا. فمَن أيدوا المشروع الأمريكي بشأن غزّة في مجلس الأمن تعذّروا بأن أمريكا وحدها تستطيع وقف إطلاق النار (مع شيء من الانتهاكات الإسرائيلية اليومية)، وفي النقاش الذي سبق التصويت على المشروع عرضوا ملاحظات تبنّاها المندوب الروسي وزاد عليها ثم امتنع وزميله الصيني عن التصويت. قبل أن يباشر ترمب خوض غمار «إنهاء الحروب» في الخارج، كان الرجل قد أرهب الداخل الأمريكي بسلسلة أوامر تنفيذية (حجب ميزانيات وإلغاء وكالات) وإجراءات أمنية غير مسبوقة (ضد الهجرة والمهاجرين)، إضافة إلى قرارات زيادة التعرفة الجمركية وما رافقها من انعكاسات في الداخل والخارج. لم تكن لديه رؤى مدروسة، وعندما بدأ يعرض أفكارًا للسلام كانت حربا أوكرانيا وغزّة بلغتا مرحلة الحاجة إلى مبادرات لوقفهما، لذا بدت خططه وحيدةً على الساحة، بلا بدائل. ولما كان التسليح الأمريكي (لأوكرانيا وإسرائيل) هو الأساسي في الحربين، فإن السعي الأمريكي إلى السلام هو الوحيد الذي يعتدّ به. كان الرئيس الروسي برّر غزوه لأوكرانيا بذرائع شتّى، بينها إزالة خطر تمدد حلف الأطلسي وتهديده لتماسك الاتحاد الروسي، ومنها أيضًا إنصاف السكان من أصول روسية في الشرق الأوكراني، لكنه قدّم ذلك الغزو على أنه خطوة نحو «نظام دولي جديد»، أي إلى بديل من النظام الأمريكي- الغربي، ما عزّز التقارب بين موسكووبكين التي تتطلّع إلى هذا البديل. لكن الواقع الدولي أظهر أن تحقيق هذا الطموح يحتاج إلى إعادة التاريخ إلى الوراء، ويفترض أن الغرب دخل مرحلة أفول لن يخرج منها. غير أن أطروحات ترمب وأدوات الضغط التي يملكها جعلت منه أقرب إلى إحداث شيء من ذلك التغيير، لكن في إطار المصلحة الأمريكية وحدها. فبعد انتهاء حرب أوكرانيا ستظفر أمريكا بالمعادن الثمينة كتعويض عما قدّمته لكييف، وفي المقابل ستظهر آثار العقوبات التي فُرضت على روسيا وأرهقت اقتصادها. وقبل ذلك كان كافيًا أن يفرض زيادات جمركية خيالية على المنتجات الصينية لتهرع بكين إلى التفاوض على تسويات تجارية. وقد استخدم ترمب سلاح التعرفات هذا ضد الحلفاء والأصدقاء. بعد تغليف «خطة ترمب» لغزّة بقرار أممي، وعرض خطته للتنازلات الأوكرانية من أجل وقف الحرب، وتسليط إدارته ضغوطًا على لبنان كي ينزع سلاح «حزب إيران/ حزب الله»، وإعلانه الشروع في الاهتمام بإنهاء حرب السودان (بطلب من ولي العهد السعودي)، كذلك لجوء إيران إلى الأمير محمد بن سلمان (رويترز) كي يقنع ترمب بإحياء المفاوضات النووية المتوقفة (رسالة إلى الأمير من الرئيس مسعود بزشكيان) لئلا تستغلّ إسرائيل هذا الجمود بهجمات جديدة ضد إيران... يصبح ترمب في موقع المؤهّل لتحقيق شعار «إنهاء الحروب» الذي رفعه قبل الوصول للبيت الأبيض، وفي السياق أيضًا لإنشاء نظامه الدولي الأمريكي «الخاص». ينطوي هذا النظام على تحجيم للحلفاء التقليديين في أوروبا، وتقييد للقوّة الروسية، وإرباكٍ للصين من دون زيادة المخاطر في مواجهتها. وعلى الرغم من تحييده تدخلات القوى الدولية الكبرى، فإن نظامه هذا سيبقى أمام اختبار صعب في الشرق الأوسط، إذ أن النجاح أو الفشل في غزّة ولبنان وسوريا ينعكسان على المنطقة عمومًا، ويتوقفان على ضبط السلوك الإسرائيلي لا الانسياق في تطرّفه وأهدافه. * ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»