في إحدى الليالي، كنت أستمتع بمشاهدة مسرحية "الواد سيد الشغال"، واستوقفتني عبارة ساخرة للفنان عادل إمام عن حالة والده الصحية: "شالوا له العمود الفقري وحطوا له جريدة". جملة بسيطة، لكنها أيقظت في داخلي تساؤلًا عميقًا: ماذا لو لم يكن العمود الفقري متوازنًا؟ شديد الصلابة ينكسر مع أول ضغط، أو لينًا إلى حد العجز عن التحمل؟ عادت إلى ذهني قصة صديق الطفولة، قائد عملي وخبير نادر في مجاله، انتقل مع رئيسه إلى قطاع خاص جديد، وكان يعتقد أنها فرصة ذهبية، لكن المفاجأة كانت صادمة: الواقع لم تكن هناك رغبة حقيقية في استقطابه، بل جزءًا من لعبة أكبر! مديره السابق أراد إضعاف الإدارة الجديدة، واستُخدم صديقي كأداة في خطة لا يعلم عنها شيئًا. مشهد أشبه بالطعنة، وقد يحطم أي إنسان، لكن صديقي لم ينكسر. التفت إلى نفسه قائلاً: "إن لم يُمنح لي دور حقيقي في المكان الجديد، فسأصنع مستقبلي بيدي". التحق بالدراسات العليا، جمع شهادات مهنية نادرة، وبنى مسارًا أقوى من أي منصب. لقد حوَّل الخيبة إلى سلّم يرتقي به، مؤكدًا أن القوة الحقيقية ليست بما يُمنح، بل ما تصنعه حين تنهض من خيبات الحياة. القصة دفعتني للتأمل في معنى "المرونة"، وكيف أنها ليست مهارة عابرة فحسب، وإنما سر قوة الإنسان الذي تكمن في قدرته على التوازن بين الثبات والتكيف، ويجب أن تكون قيمة أساسية للأفراد والمجموعات والمؤسسات في حياتنا المليئة بالتحديات؛ كفقد عزيز أو خسارة وظيفة أو أزمة صحية أو ضغط الدراسة، أو الفشل في قيادة قطاع / فريق، أو إفلاس شركات. في الظروف الصعبة تظهر أهمية "المرونة": إما أن نستسلم وننهار، أو نلتقط الأنفاس ونعيد ترتيب أوراقنا للنهوض مجددًا. أما المجموعة فمرونتها تنعكس في الانسجام، تغطية المهام عند نقص الأفراد، والتكاتف لتحمل المسؤولية. بينما المنظومة لا تُقاس بعدد أو قوة مواردها، بل بقدرتها على التكيف مع التحولات، وتجاوز الأزمات، وابتكار حلول جديدة تواصل بها مسيرة النمو. لنعِد بالذاكرة إلى جائحة كورونا "كوفيد-19"، وكيف أننا كأفراد، ومجموعات -عائلة أو فريق عمل-، وحتى كشركات أو دول، استطعنا التكيف مع الأوضاع والتعليمات، ولنرى أيضًا ما قدمته مختلف الجهات الحكومية التي تحرَّكت بتوجيه قيادتنا الرشيدة -أعزها الله- بدقة وسرعة، بدءًا من تشخيص التحديات، مرورًا بتشكيل الفرق وتعبئة الموارد، وصولًا إلى التنفيذ والتطوير المستمر. لقد أثبتت تلك المرحلة أن المرونة خيارٌ أساسي لا ثانويًا، بل أساسًا للنهوض والبقاء. "المرونة" ليست تنازلًا ولا ضعفًا، بل قمة الحكمة وذروة القوة، فهي تُسهم في صمود الفرد وتطوره، وتُمكِّن المجموعة من النجاح بالانسجام القوي، وتضمن للمنظومة استمرار النمو والازدهار. من يتقن هذه المهارة لا تكسره العواصف، بل تصقله ليصبح أكثر صلابة. رحِم الله والدي، فقد كان يقول لي دائمًا: "خلك مرن يا ولدي". * خبير تنفيذي في إدارة المشاريع وتطوير الأعمال