الأمن في الأوطان هو أغلى ما يملكه ساكنوها، وأدعى ما يجب أن يحافظوا عليه؛ فبدون الأمن لا تتحقق حتى اللوازم الضرورية للحياة. ولقد نص القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً على هذه الحقيقة الراسخة بقوله تعالى: «ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين»، فجعل الخوف، الذي هو الضد المقابل للأمن، هو أول وأبرز الرزايا التي قد يُبتلى بها البشر. وفي نفس السياق نجد أن أبا الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- فيما يحكيه القرآن عنه، قد دعا ربه أن يمن على بلده بالأمن حتى قبل قيام التوحيد، الذي لا يقبل الله من الإنسان عملاً بدونه، إذ قال -عز وجل: «وإذا قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنًا واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام»؛ فجعل الأمن مقدماً على تجنب الشرك، رغم خطورته من منظور أن الله لا يقبل معه أي عمل؛ ومع ذلك قدم عليه الأمن بصفته رأس سنام الضرورات الحياتية. وبالمثل، نجد أن السنة النبوية نصت أيضاً على أولوية الأمن في الأوطان بصفته أساس الحياة، فلقد رُوِي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه وليلته فكأنما حيزت له الدنيا». وهكذا فإذا تحقق الأمن في الوطن، أمكن -بإذن الله عز وجل- علاج المريض، وإطعام الجائع، إضافة إلى أن الانطلاق نحو تحسين جودة الحياة، وتحصيل العلم، وتربية الأسر، وتحقيق مناط المراد من الاستخلاف الإلهي في الأرض، لا يمكن أن يتم بدون الأمن. تداعت إلى ذهني هذه الحقائق الحياتية وأنا أعود لقراءة شيء من فلسفة فيلسوف العقد الاجتماعي (توماس هوبز، ت 1679)، الذي راعه ما كان يحدث في بلاده «إنجلترا» في منتصف القرن السابع عشر من مماحكات وحروب بين البرلمان والملك حينها، وما خلَّفته من تضعضع أمني، وانكشاف لذئبية الناس هناك، وكيف أصبحوا سباعاً، القوي فيهم يفترس الضعيف، فقال قولته المشهورة في مؤلفه المشهور «الليفياثان»: «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان». وبمناسبة الحديث عن «هوبز» ومذهبه في تفويض الدولةِ كلَّ ما تراه ضرورياً لتحقيق الأمن والسلام للمواطنين قبل الحديث عن حرياتهم، وسائر حاجاتهم المعيشية، فإن لي قصة معه سأوردها باختصار. كنت في سالف عمري مما قضيته في قراءة الفلاسفة التجريبيين الإنجليز، وعلى رأسهم «هوبز»، كنت لا أخفي إعجابي به كأحد رواد العقد الاجتماعي التجريبي، الذي لا يصطبغ بميتافيزيقا من فلاسفة العقد الاجتماعي، خاصة المثاليين منهم، إلا أن تشديده على تكريس الصلاحيات المطلقة للحكومة لكي تبسط الأمن والسلام في ربوع القطر الذي تحكمه جعلني أتساءل عما يبقى لها، أي حكومة هوبز، مما أراه لازماً لبسط الحرية ورعاية خيرات الشعب. وما إن تقدم بنا العمر سائرين في ركاب المشيب الذي بدأت شمسه تلوح على رؤوس الذوائب حتى أدركْنا كم هو غالٍ ونفيس وثمين، ذلك الذي يدعو إليه الفيلسوف الذي خبر ما يترتب على ضعف الأمن وهشاشة السلام في بلده نتيجة مشاحنات البرلمان والملك، من انعكاسات اجتماعية خطيرة، ثم جاءت موجات ما سُمِّي حينها ب«الربيع العربي» التي خلّفت بلدانًا، إما خالية من الحكومات، أو خلف فيها حكوماتٌ هي أضعف من أن تبسط الحد الأدنى من الأمن، بعد أن كانت البلاد المعنية يوما ما أنشودة أمن وواحة سلام يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فأصبح لدينا يقين تام بأن من بات آمنا في سربه، فسيتعافى بدنه، ويأتيه رزقه الذي مهما كان شحيحاً فهو أهنأ وأفضل من جبال الذهب والفضة مع اهتزاز الأمن؛ كما آمنّا بصدق العبارة المأثورة عن عمرو بن العاص:«سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم»، ومصداق ذلك في البلاد التي فشت فيها الميليشيات الطائفية والجماعات الإرهابية ممن تقتل على الهوية، وتسبي، وتأخذ الأموال في وضح النهار، فأصبح المواطن فيها يتمنى أن يُحكم بسلطان غشوم ظلوم مستبد، خير له من تلك الجماعات والميليشيات، فكيف إذا كان حاكماً بعيداً عن الظلم، رحيمًا بشعبه، موفراً لهم ما يحتاجون إليه وما فوقه، أليس جديراً بأن تُرفع له الراية، وتُعقد له البيعة؟ ولعلي في ختام هذا المقال أنبه شبابنا الغض الذي قد تفوت عليه أغراض الدعايات المسمومة التي تنتشر في وسائل التواصل ضد بلده وأمنه وأمانه، إلى أن يحذروا وينتبهوا من أن يقعوا في مصيدة شرار الخلق الذين لا يرقبون فينا إلاً ولا ذمة، ويتمنون أن تدور علينا الدوائر، ويصيبنا ما أصاب تلك المجتمعات التي أخِذَت بالسِنين وشدة المؤونة، وجور الميليشيات وفجور الجماعات، فيحافظوا على بلدهم، ويَعضوا على أمنه وأمانه بالنواجذ.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.