في قلب العاصفة الرقمية التي تجتاح العالم، يقف رجل واحد وحيدًا في مواجهة إعصار التحديات، يحمل في يده قلمًا لم يعد يكفي لمواجهة وابل التغيير، وفي قلبه إيمان يتضاءل أمام اتساع الفجوة بينه وبين الأجيال، إنه المعلم ذلك الكائن الذي نطلب منه أن يكون بطلاً خارقًا، بينما نحجب عنه أدوات البطولة. ليس من باب الشكوى أقول هذا الكلام، بل من واقع أصبح أكثر قسوة، المعلم اليوم أصبح كالفارس الذي أخذوا منه فرسه وسلاحه ثم طلبوا منه خوض المعركة. ملومًا إذا تراجع، ومتهماً إذا تقدم، ومنسياً إذا انتصر، يُحاسب على النتائج، لكنه لا يملك عُدّة الإنجاز. ومطلوب منه الإبداع والابتكار في ظل تغير نظم التعليم وسياساته بشكل مستمر، فيزداد اضطرابه والتشتت. المعلم يعيش في فجوة زمنية وجودية، يحاول أن يبني جسورًا بين عالمين: عالم المناهج الثابتة كالنصب التذكارية، وعالم الطلاب المتغير كأمواج البحر في يوم عاصف، إنه كمن يحاول عبور هوة سحيقة بحبل من حرير. إذن فأين دور المعلم الحقيقي في معادلة أصبحت فيها الأرقام أهم من البشر؟، وأين مشاركته في صناعة القرار التربوي والتعليمي؟، الحقيقة أنه ليس سوى منفذ للتعليمات، وعامل على خط إنتاج، يُطلب منه أن يُخرج دفعات متشابهة من الطلاب، كترس في آلة ضخمة، لا يُقدّر تفرده، ولا يُستشار فيما يخص مهنة يعيشها كل يوم. إنه كالنحلة التي طلبوا منها إنتاج العسل دون أن يسمحوا لها بالخروج من الخلية. يُطلب منه تطوير الأساليب ومواكبة العصر، بينما هو مكبل بمناهج لم تتغير، وأساليب لا تخرج عن دائرة التلقين والحفظ إلا ما ندر. وهذا خلاف جوهر التعليم، فالتعليم في جوهره عمل إبداعي رسولي، لكنه تحول إلى سلسلة من الأرقام والإحصائيات. ها هي الفجوة تتسع كشقوق الأرض قبل الزلزال: مناهج من زمن الماضي تكافح لتعليم جيل من مستقبل لم يأت بعد، طالب يعيش في عالم الميتافيرس والذكاء الاصطناعي يُطلب منه أن يملأ فراغات في كتاب مدرسي، أو يحفظ تعاريف منسوخة لا يرى لها صلة بحياته، هذه الازدواجية الرقمية تخلق تشتتًا وجوديًا يصيب الجميع: الطالب الذي يعيش انفصامًا رقميًا، والمعلم الذي يعيش ازدواجية مهنية، والمنظومة التي تعيش صراعًا بين التقليد والحداثة. فإلى متى سنظل نطلب من المصباح أن ينير وهو محجوب بستار العتمة؟، وإلى متى سنظل نطلب من الشجرة أن تثمر وهي مغروسة في تربة من الأسمنت؟!.