استحقّ لبنان مؤخرًا، بعد عقودٍ من العبث بالشرعيّة، أن يتولى رئاسة الوزارة فيه رجل دولة يؤمن بالمؤسسات ودولة القانون، جاءنا نواف سلام، من أروقة القضاء الدولي والمنظمات الدولية، حاملاً معه تجربة افتقدتها الدولة اللبنانية منذ اللحظات الأولى لاشتعال الحرب الأهلية في 13 أبريل 1975. منذ خمسين سنة، ومؤسسات الدولة اللبنانية تعاني من هيمنة أحزابٍ تؤمن بالعنف والتغيير الإكراهي بالدم والنار، ومشروعها الوحيد ضرب استقلال الدولة اللبنانية. ومع إحكام النظام السوري السابق هيمنته على لبنان في سنة 1990، استمرت هذه الممارسات بوتيرة فجّة وعلنية، فأصبحت الإدارة العامة مرتهنةً بالكامل للزعامات المحلية، وبدلاً من قيامها برعاية شؤون الشعب اللبناني بأسره انتهى الأمر بها إلى العمل على ضمان مصالح هؤلاء الزعماء وأتباعهم حصرًا. هذا النموذج المناقض لأبسط ضوابط الحكم الرشيد أدّى في نهاية المطاف إلى الإنهيار الشامل في أكتوبر 2019، حيث انهار الاقتصاد ودورة الإنتاج، وأفلست الخزينة العامة نتيجة الفساد والزبائنية في الإدارة العامة، وانهارت العملة نتيجة عبثية النموذج الاقتصادي القائم على إصدار الدولة اللبنانية لسندات خزينة اكتتبت فيها المصارف التجارية بكامل ودائع الشعب اللبناني، وانتهى الأمر بإفلاس المصارف التجارية بدورها، وتبخّر كامل مدخرات اللبنانيين والمستثمرين الأجانب. أما بخصوص ما تبقّى من حرصٍ عربي على استقرار لبنان، فقد تكفّل حزب الله بإقصائه، من خلال الاعتداء الممنهج على أمن وسلامة ورموز الدول العربية الشقيقة، مما أفقد لبنان آخر أملٍ بالنهوض وتقويم المسار. في الثامن من أكتوبر 2023، قرر حزب الله، منفردًا ودون أن يقيم وزنًا لمؤسسات الدولة اللبنانية ودستورها الذي ينصّ أن قرار الحرب والسلم بيد المجلس النيابي، أن يبادر إلى فتح جبهة الجنوب ضد دولة إسرائيل، فاستمر يشاغلها بهجماتٍ صاروخية يومية، لا يمكن فهمها إلا في سياق استدراج الحرب الشاملة على لبنان، طيلة سنةٍ ونيّف، لم يبق وزير خارجية دولة محبّة للبنان إلا وبادر بالزيارة لتقديم النُّصح بوجوب وقف هذه الاعتداءات العبثية؛ لأن ويلاتها ستفوق قدرة لبنان على التحمّل، لكن حزب الله كان له رأيٌ آخر؛ لأن دولةً ضعيفة في لبنان هي حلم كل ميليشيا، ولأن شعبًا جائعًا مرميًّا في الخلاء بلا مأوى وبلا أمل هو الجمهور الأمثل لمن يبيع الأوهام، فحزب الله يَعِدُ بالقوة، ولكنه ينهار بالكامل خلال ثلاثة أسابيع من حرب إسرائيلية مكثفة، ويَعِدُ جمهوره بالعزة والكرامة، ولكننا رأينا أهلنا من أبناء الجنوب في الشوارع هائمين يبحثون عن مأوى، ويَعِدُهم بالتعويض عن ضياع بيوتهم وأرزاقهم، ولكنه يطلب من الدولة اللبنانية أن تضع الضرائب على أبناء الشعب اللبناني كافة؛ لنتحمّل جميعًا ثمن عبثيته وارتهانه للخارج، لا بل تصل به الفظاظة بأن يعاتب الدول العربية على عدم مساندتها لبرنامج إعادة الإعمار. إن أزمة القضية الفلسطينية هي وقوعها بيد منظّماتٍ ترى أن النضال يجب أن يحقق كل شيء والآن. نريد الانتصار الشامل، ولا شيء أقل من الانتصار الشامل، الآن وفي هذه اللحظة بالذات، يتناسون الكثير من تجارب الشعوب التي مارست نضالاً واعيًا امتدّ لعشرات السنين، فالشعب الجزائري استمر نضاله مائة وثلاثين سنة، والهند ناضلت طيلة مائة سنة، والإيرلنديون يقاومون منذ ثمانمائة سنة حتى اليوم، ليس عملاً مشرفًا أن تقاوم وتخسر كل شيء، وتستجلب لشعبك ويلاتٍ أشد مما هم فيه الآن، إن قمت بذلك، أنت لست مقاومًا، بل مناضل كاذب. من هنا، فإن ما يقوم به، نواف سلام، يرتدي أهمية عظيمة، فهو يقاوم الفساد والزبائنية والمحاباة والعنف الميليشوي من داخل المؤسسات، بقوة القانون، متسلحًا بالدستور ومستندًا لتأييد كل المواطنين الذين يؤمنون بالشرعية. إن ممارسة نواف سلام لمهامه كرئيس للوزراء تضيء لنا أملاً كبيرًا في أن تعود للدولة اللبنانية مهابتها وسلطتها، يجسِّدُ نواف سلام اليوم، في كل قرارٍ يصدره وفي كل موقفٍ يتّخذه، حلم كل لبناني غادر وطنه متطلّعًا لحياة هانئة وآمنة لم يعد لبنان يقدمها. قد لا يكون صوتنا مرتفعًا، فنحن لا نتقن ارتداء القمصان السود، ولا نعلم كيف نقود الدراجات النارية لنقطع الطرقات ونعتدي على الآمنين، ولكن هذا لا يعني أننا لسنا كلنا صفًاً واحدًا خلف فكرة الشرعية التي يمثلها اليوم، في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ لبنان، الرئيس نواف سلام. ماذا يفعل نواف سلام على و جه التحديد؟ إنه يقاوم المقاومة الزائفة وهذا عمل نبيل جدًا.