من التَّشريعاتِ الضّامنةِ لائتلاف القلوب اجتماعُ الكلمةِ على وليِّ الأمرِ، وبيعته واستدامةِ الوفاءِ بتلك البيعةِ؛ لأنَّ في ذلك حسماً لمادّة الفوضى، ومنعاً لأهل المآرب الضيّقةِ من تمزيق الصفوف، ومن المستحيلِ أن تتآلف القلوب ويأمن الناس بعضهم بعضاً إلّا تحت قيادةٍ تضبط أمورَهم، وتديرُ شؤونهم.. ائتلاف القلوب واجبٌ دينيٌّ، ومطلبٌ وطنيٌّ، وركيزةٌ اجتماعيَّةٌ، وهو أهم الأسس التي ينبني عليها اجتماع الكلمةِ، وترتكز عليها وحدة الصفِّ، وتقوم عليها اللحمة الوطنيَّة، ويتراصُّ بها صف الجماعةِ خلف قائدها ووليِّ أمرها؛ فإذا تآلفت القلوب اجتمعت الأبدان، وعمَّت السكينة، وساد الأمنُ، وتحققت المصالح وتكاملت، واندرأتِ المفاسدُ وتضاءلتْ، لأنَّ القلب ملِك الأعضاء، والغالب أن تدور معه حيث دار، ومصداق ذلك ما ورد في حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم (أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ) أخرجه مسلمٌ، وقد يتبادل بعض الناس ما يبدو للناظر أنه تآزرٌ واجتماعٌ، لكنه لا يطول بقاؤه، ولا يثمرُ جدوى ذاتَ بالٍ؛ لأنه لم ينبع من قلوبٍ متآلفةٍ، وإنما استبدَّت به ألسنةٌ تزخرفُ الكلامَ، فلم يصمُدْ عند أول تجربةٍ يتعرَّضُ لها، وقد صدق من قال: لعَمْرُكَ ما وُدُّ اللِّسَانِ بِنَافِعٍ ... إذا لمْ يَكُنْ أصْلُ الموَدَّةِ فِي الْقَلْبِ ولأجل ذلك كان الشرعُ المطهّرُ حريصاً كلَّ الحرصِ على ائتلاف القلوب، وكانت مراعاةُ تشريعاتِه وأوامره ونواهيه كفيلةً بتحصيل ذلك على أتمِّ الوجوه وأحسنِها، ولي مع عناية الشريعةِ الغراءِ بائتلافِ القلوب وقفات: الأولى: حثت الشريعة على ائتلاف القلوب بالأمر به صراحة، وبتشريع ما يرمز له ضمناً، أما الأمر به صراحةً، فكما في حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»، أخرجه مسلمٌ، وأما التشريعاتُ فكل شيء جاءت به الشريعة المحمديّة أو قررته ففيه تأليفٌ للقلوب، وأول وأهمُّ ما جاءت به توحيدُ الله تعالى بالربوبية والألوهية، وهذا أولى الأعمال وأيمنُها في الدنيا والآخرة، ومن يُمنِه أنه سببٌ لائتلافِ القلوب واجتماعِ الكلمة؛ ثم من نظرَ إلى كافّة تشريعاته وجدها تجمعُ ولا تفرِّقُ، لا سيما الفرائض الكبرى، فالصلواتُ قبلتها واحدةٌ، والمفروضة وبعض السنن منها تؤدّى جماعةً في نسقٍ بهيجٍ، يرمزُ لوحدة القلوبِ؛ ولهذا ربط بين عدم تسويةِ الصفوف وبين اختلاف القلوب، فعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله تعالى عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» متفقٌ عليه، وما قيل في الصلاة من رمزيتها للائتلاف يقال مثله في الزكاة التي روحها التّكافل الاجتماعيُّ، وعطف القلوب بعضها على بعضٍ، والصِّيامُ يوحِّدُ أهلَ كلِّ بلدٍ في يومِ صيامِهم وفطرهم بنظامٍ بديعٍ، والحجُّ تتوجه فيه القلوبُ إلى المشاعرِ المقدسةِ قبل توجه الأبدانِ إليها، وهذا من مظاهر قبول دعوة نبيِّ الله تعالى وخليله لأهله في هذا البلد المبارك: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)، فالمشاعر المقدسةُ مَهْوَى القلوب، وشعائر الحج المقامة فيها يتجلى فيها الاتحاد والتجانس بشكلٍ محسوسٍ لا تخطئه العيون. الثانية: من التدابير التي جاءت بها الشريعة لِتتآلفَ القلوبُ، صيانتُها للحقوق وتمييزها لها بشكلٍ لا التباسَ فيه، ورسم الخطوط الواضحة للخصوصياتِ، مما يجعل الجميع يعرف حقه ليصونه، ولا يتعداه، ويعرف خصوصية الآخرين حتى لا ينتهكها، ففي تشريع هذه الضوابط فرصةٌ للقلوبِ لتتآلف، وبقدر مراعاة تلك التعليمات تتآلف القلوب، وتقلّ الخصومات بين النّاس، ثم لم يكتف الشرع بهذه التعليماتِ، بل فوَّض إلى وليِّ الأمر ومن يُنيبه مهمَّةَ حفظِ الحقوق، والبتِّ فيها عند التنازع؛ لأجل ما جُبِل عليه البشر من المشاحّة والتدافع على الحقوق، فالبتُّ في النزاعاتِ كفيلٌ بإيتاءِ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، وإنهاء حالةِ الاختلافِ على الحقوقِ، ومن شأن ذلك أن يمتصَّ الغيظَ من قلب من كان حسنَ النيّة في الخصومةِ مدعياً أن له قِبَلَ أخيه حقّاً، فإذا تبيّن له أن الحقَّ لغيرِه تلاشى ما في قلبِه من النّفرة؛ لأن من يتحرّى الصوابَ إنما يغتاظ على خصمِه؛ لظنِّه أنه تعدَّى على حقٍّ له. الثالثة: من التَّشريعاتِ الضّامنةِ لائتلاف القلوب اجتماعُ الكلمةِ على وليِّ الأمرِ، وبيعته واستدامةِ الوفاءِ بتلك البيعةِ؛ لأنَّ في ذلك حسماً لمادّة الفوضى، ومنعاً لأهل المآرب الضيّقةِ من تمزيق الصفوف، ومن المستحيلِ أن تتآلف القلوب ويأمن الناس بعضهم بعضاً إلّا تحت قيادةٍ تضبط أمورَهم، وتديرُ شؤونهم، والتقيّدُ بتعليماتهِا ضروريٌّ؛ لأنها الحامية للضرورياتِ التي لا تستقيم الحياة بدونها، وهي حفظُ الدين والنفس والعقل والمال والعرض، ولا تخفى عناية الشَّرع بالإلزام بطاعة وليِّ الأمر، وذلك من خلال الأمر بها على جهة الإيجاب كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، وتغليظ النهي عن مخالفته، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، أخرجه مسلمٌ.