حين قلبتُ الصفحة الأخيرة من رواية الشيخ والبحر.. شعرتُ كأنّي قد خرجتُ من قُمقُم نفسي ثمّ عدتُ إليها مُحمّلًا بما ليس منها، وكأني أُغلق بابًا على حياةٍ كاملة، حياةٍ لم تكن لتُروى عن شيخٍ كوبي يُصارع البحر فقط، بل عن الإنسان كلّه في صراعه الأزلي مع الوجود بين الوحدة والكبرياء. إنّها روايةٌ لا تُحكى بلسان راوٍ بقدر ما تُحكى بصمت البحر، وبحّة الريح، وتعرّق الأمواج، وانكسار الضوء على جبين الصياد العجوز سانتياغو. إنها ليست حكاية صياد فقير يُصارع حظّه العاثر، بل هي مرآةٌ عميقة تضعنا وجهًا لوجه مع أسئلتنا الكبرى: لماذا نُصرّ على الاستمرار؟ وما معنى الكرامة حين يُسحق الجسد؟ وهل الهزيمة المادية تُلغي النصر المعنوي؟ سانتياغو الذي أمضى أكثر من ثمانين يومًا دون أن يصطاد شيئًا لم يفقد يقينه. وكأنّ هذا العناد البشري الذي كثيرًا ما يُساء فهمه هو الوقود الذي يجعل القلب يخفق في أحلك الظروف. فلم يكن البحر عنده مصدر رزق فحسب، بل خصمًا كريمًا، ورفيقًا قديمًا. لم يكن سانتياغو الصياد العجوز ليُقاوم الزمن أو ليندب حظّه، بل كان يُبحر. ورغم الهزائم المتكرّرة التي تُلاحقه يظلّ قلبه مشدودًا إلى الأفق، وعيناه تفتّشان عن سمكةٍ كبيرة تُعيد إليه توازنه مع الكون. وفي رحلته تلك لم يكن ليسعى إلى المجد، بل إلى ما هو أعمق: إلى إثبات أن الإنسان وإن خسر معركته لا يفقد كرامته. لقد خرج وحده إلى البحر، بعزيمة تتفوق على هرمه، وواجه العالم بصنّارته وخبرته وأحاديثه مع الطيور والأسماك والنجوم.. هناك في أعماق البحر حيث لا قوانين تُسعف ولا جمهور يصفّق ولا تاريخ يشفع.. هناك الإنسان في صورته العارية وهو يُصارع الجوع والتعب والخذلان. كتب همنغواي بأسلوبه المجرّد، غير أنّ كل سطر في الرواية يحمل عُمقًا وجوديًا مُدهشًا. فلم تكن السمكة الكبيرة التي اصطادها سانتياغو مجرّد صيدٍ ثمين، بل كانت رمزًا لكلِ حلمٍ نُطارده، ولكل شيءٍ نفقده بعد أن نظن أنّنا امتلكناه. لقد بدا وهو يجرّها بيديه الجريحتين كلما اقترب منها ابتعدت، وكلما أجهدته أغوته. وحتى أسماك القرش التي مزّقتها لم تكن مجرّد صيد، بل كانت رمزًا لكل ما نبنيه بعناء ثم تنقضّ عليه الأقدار. ولم تكن مجرّد خصمٍ عابر، بل كانت تمثيلاً لكلّ ما يُهدّد إنجازاتنا. تبدو عزلة الشيخ في البحر عزلةً ذات معنى لا عزلة يأس. إنه هناك في أعماق البحر في مواجهة الطبيعة والليل والخوف، وكأنّها تُعلمنا مجتمعةً درسًا نادرًا في الكرامة التي لا تُقاس بالنتائج، بل بالمحاولة. وأننا حين نُهزم بشرف فإنّنا ننتصر بطريقةٍ أخرى. وفي زاوية من الرواية يسطع ضوء الفتى مانولين، ذاك الذي لم يغرّه الشباب ولا سخرية الناس من الشيخ العجوز. وإنّما ظلّ يرى فيه الإنسان كما يجب أن يُرى عبر التجربة والصلابة والتواضع؛ حيث بدت علاقته بالشيخ تتجاوز علاقة التلميذ بأستاذه، إنها علاقة الجيل الناشئ بالإرث الإنساني، وعلاقة الأمل بالمعنى. فالفتى لا يرى في الشيخ رجلاً خَرِفًا ومهزومًا، بل يرى فيه الرمز والبطل. وفي زمنٍ تتغيّر فيه القيم ويتهشّم فيه الحلم أمام عتبات السرعة والصخب، تأتي رواية الشيخ والبحر لتُعيد إلينا شيئًا من السكون والتأمّل في معنى النضال. لقد شعرتُ لوهلةٍ وأنا أقرؤها أنني أُصغي إلى صوتٍ قديم ينبعث من أعماق الإنسانية، ويهمس بأُذني: "قد تُهزم لكن لا تُذلّ. وقد تخسر لكن لا تنكفئ". وفي النهاية، يعود الشيخ إلى كوخه بجسدٍ مُنهك، لكن بروحٍ منتصرة. وكأنّ همنغواي يقول لنا: إنّ الإنسان لا يُقاس بما يربحه، بل بما لا يتخلّى عنه. وأنا بصفتي قارئ لم أربح فقط حكاية، بل ربحتُ مرآةً أتأمّل فيها ذاتي. لقد عدتُ من هذه الرواية وأنا أكثر إيمانًا بأنّ النبل لا يُقاس بالنتائج. لقد تعلمت من سانتياغو أنّ الإنسان قد يُهزم من الخارج، لكنّه يظلّ مُنتصرًا من الداخل ما دام لم يخن قِيَمه. لقد فهمتُ أنّ البحر كما الحياة لا يُعطي بسخاء، لكنّه حين يمنح فإنّه يمنح على قدر الصبر والتجلّد.