شهدت المملكة انفتاحًا نقديًا متقدمًا منذ الثمانينات الميلادية ومرحلة الحداثة، وقد تجاوزت مرحلة التعاطي المباشر مع النصوص الأدبية والفنية، إلى مستويات أعمق من التفكير والتحليل، إلى ما يُعرف ب"نقد النقد". وهو اتجاه نقدي يسعى لتفكيك الخطاب النقدي نفسه، وقراءة المنهجيات التي يستخدمها النقاد في تعاملهم مع النصوص الإبداعية، مما يمنح المشهد الثقافي أفقًا معرفيًا أكثر عمقًا ومساءلة. وهو يتعاطى مع الخطاب النقدي ذاته، وليس النصوص الأدبية أو الفنية مباشرة، أي أنه يُعنى بتقييم ما يقوله النقاد، والطرق التي يتعاملون بها مع النصوص. ولا يكتفي بالبحث في مدى صواب الناقد أو خطئه، بل يطرح تساؤلات حول الأسس المعرفية، والمناهج المستخدمة، والخلفيات الأيديولوجية التي يتكئ عليها النقد. وقد ظهر هذا الاتجاه بوضوح في الفكر الغربي مع منظّرين مثل نورثروب فراي وبول دي مان وجاك دريدا، ليتحول إلى أداة معرفية تسبر عمق الخطاب النقدي وتكشف انحيازاته وتناقضاته، وتضعه في سياقه الثقافي والسياسي. وبالنسبة للمشهد الثقافي السعودي فقد شهد نقلات كبيرة في السنوات الأخيرة بشكل لافت، وبرزت أعمال إبداعية في مجالات الأدب والسينما والمسرح والفنون البصرية، إلا أن الخطاب النقدي لم يواكب هذا الحراك بنفس الحيوية والعمق -كما تحدثنا عن ذلك في مقال سابق- وهنا تبرز الحاجة إلى نقد النقد كأداة لضبط المسار النقدي وتطويره. ولكي نتمكن من بناء هذا الاتجاه بشكل صحيح، ينبغي أن نركز على النقاط التالية: في الرواية: يمكن تطبيق نقد النقد على القراءات التي تناولت الروايات المحلية، مثل روايات عبده خال أو رجاء عالم، لفحص مدى انطلاقها من منهج واضح أو مجرد ذائقة شخصية. في السينما: بعض الكتابات النقدية التي تناولت أفلامًا سعودية مثل سيدة البحر أو شمس المعارف اتسمت بالتبجيل أو بالتقليل، وهنا يمكن ممارسة نقد النقد لكشف معايير التقييم الغائبة أو المغيبة. في الشعر: تناول النقد السعودي قصائد أحمد الملا ومحمد الثبيتي وعبدالله الزيد، لكن دون مساءلة حقيقية لمعايير الحكم أو أدوات التحليل. وهذا يعني أننا أمام معوقات لنقد النقد في المشهد المحلي التي تعود من وجهة نظري إلى: ضعف الثقافة النقدية المتخصصة لدى بعض الكتاب، وغياب الحاضنات الأكاديمية التي تعزز ممارسة هذا النوع من النقد، والخوف من الاصطدام بالرموز الثقافية أو المؤسسات. وأيضاً الخلط بين نقد النص ونقد الناقد، مما يسبب حساسيات شخصية تعيق الحوار الفكري الناضج، والنقطة الأخيرة ربما تكون هي الأهم في هذا السياق. وحتى نتمكن من تجسير هذه الهوة، أو ردمها علينا أن نهتم بالدراسات الأكاديمية العليا لتناول الخطاب النقدي المحلي "دراسة وتحليلًا"، والعمل على نشر مقالات نقدية جريئة في الصحف والمجلات الثقافية لفتح باب الحوار، مع إعادة قراءة تاريخ النقد السعودي منذ نشأته حتى اليوم، وفق منظور "نقد النقد"، إلى غير ذلك من الأساليب التي تعزز هذا الجانب، لكون "نقد النقد" ليس ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة معرفية تسهم في تنقية وتطوير المشهد النقدي.