في زمنٍ مضى، في الثمانينيات مثلا في المملكة، وقبل ببعض سنوات في بعض الدول العربية مثل مصر ولبنان والشام، كان اسم الناقد الأدبي يلمع إلى جانب أسماء كبار الروائيين والشعراء. بل في بعض الأحيان، كان الناقد أكثر شهرة وتأثيرًا من الكاتب نفسه. لكن ما الذي حدث حتى توارى حضور النقد الأدبي خلف الأضواء؟ وهل فعلاً خفت بريقه في الوطن العربي؟ الآن: تغيرت الساحة الثقافية كثيرًا، فبعد أن كانت المجلات الثقافية والملاحق الأدبية هي المنابر التي تضيء النصوص وتحفز الحوار النقدي، جاء عصر المنصات الرقمية ليخلط الأوراق، كل شخص اليوم قادر أن يكتب "رأيه" في رواية أو ديوان شعري، وينشره خلال دقائق، سواء كان متخصصًا أم غير متخصص. فالنقد لم يعد حكرًا على أصحاب الأدوات والمنهجيات، بل أصبح في متناول الجميع، وهذا أدى إلى "دمقرطة" democratization للنقد، أي كسر الاحتكار، ورغم إيجابية ذلك، إلا أنه أسهم في تمييع المعايير، وغابت بسببه الأصوات النقدية العميقة لصالح تعليقات انطباعية سطحية. في الثمانينيات والتسعينيات، كنا نقرأ لعبدالله الغذامي، وسعيد السريحي وصلاح فضل، وجابر عصفور، وقبلهم كان العقاد وطه حسين ومحمد مندور وغيرهم في مصر، كانت تتابع ردود الأفعال حول مقالاتهم وتحليلاتهم، كانت كتبهم تثير جدلًا فكريًا حقيقيًا. أما اليوم، فقليلون هم النقاد الذين نسمع عنهم أو نتابعهم، وحتى عند صدور أعمال أدبية كبيرة، نادرًا ما نجد قراءة نقدية جادة تتناولها بشكل منهجي وعميق. هل المشكلة في النقاد؟ أم في القارئ الذي لم يعد يهتم إلا بالتقييمات المختصرة و"الريفيوهات" السريعة على مواقع البيع والمنصات الرقمية؟ هناك من يقول إن النقد لم يختفِ، بل انسحب إلى الجامعة. وهذا صحيح جزئيًا، فالمكتبات الجامعية مليئة بالرسائل والبحوث النقدية التي تحلل الأدب العربي المعاصر، لكنها تبقى حبيسة الجدران، مكتوبة بلغة أكاديمية جافة، لا تصل إلى القارئ العام، ولا تتفاعل مع الحياة الثقافية اليومية. ومع أن المشهد قاتم نوعا ما، إلا أنه يظل بقية من أمل، فثمة مؤشرات على عودة الاهتمام بالنقد، خصوصًا من خلال بعض الجوائز العربية التي بدأت تخصص فروعًا للنقد والدراسات، مثل جائزة الملك فيصل العالمية، وجائزة الشيخ زايد وجائزة الطيب صالح، وغيرها، كما أن هناك منصات ثقافية رقمية بدأت تفسح المجال أمام النقد الموضوعي والمنهجي ليطل من جديد، ونعلق الآمال في جهود وزارة الثقافة في المملكة للدفع بهذا الاتجاه، خاصة وأنها تقدم دوراً كبيراً ومهماً في خدمة الأدب المحلي.