المسار السعودي في الملف السوري تجاوز سياق العروبة والإخاء، بل رسّخ مفهوم الشراكة الحقيقية، حيث التنمية وتحريك عجلة الاستقرار من بوابة الاقتصاد، وهذا النمط الذي تتبناه الرياض هو ما يمثل نمطًا سعوديًا حكيمًا في إدارة النزاعات وتحويلها فرصاً للتكامل والنهوض.. بين الرياضودمشق تتجدّد المعادلة وتتشكل مساراتها من جديد، المملكة العربية السعودية، بثقلها العربي وحنكتها الاستراتيجية، تصوغ اليوم دورًا فاعلًا في رسم ملامح سوريا المقبلة، بدءًا من الدعم السياسي المبكر لقضية الشعب السوري، إلى هندسة مسار العودة عبر بوابات الشرعية، تلك هي الخطوات السعودية التي تسير بثقة نحو إعادة التوازن. ففي مايو 2025، حلّ الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضيفًا على الرياض، في زيارة حملت بين سطورها تحوّلات إقليمية عميقة، لقاءات موسعة، وملفات شائكة، وفي قلبها الملف السوري، بقيادة الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- من قاد التحرك بحنكة، وطرح رؤية متكاملة تتجاوز المواقف التقليدية. خلال اللقاء، وافق ترمب على رفع العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، استجابة لطلب سعودي مباشر، وتقديرًا لمقاربة واقعية تعيد دمج دمشق في النظام العربي، فكان إعلان القرار من الرياض، ثم توقيعه رسميًا نهاية يونيو، والذي شكّل نقطة انعطاف في مسار العلاقات الدولية مع سوريا، بقيادة الحكومة الانتقالية الجديدة من فخامة الرئيس السيد أحمد الشرع، حيث بدأت معه خطوات الإصلاح والانفتاح بشكل سريع وواضح، والسعودية كانت في مقدمة الداعمين بلا شك. فكان إطلاق مشاريع سعودية استثمارية كبرى، تجاوزت قيمتها 6.4 مليارات دولار، شملت البنية التحتية والطاقة والصناعة والتمويل والإسكان، ومصنع الأسمنت الأبيض في عدرا، ومشروع الأبراج التجارية في دمشق، ومبادرات لتوظيف عشرات الآلاف من السوريين، تعكس حجم الثقة السعودية بمستقبل التعافي السوري. رجال الأعمال السعوديون مدعومون بثقة القيادة -أيدها الله- ومؤسساتها، وجدوا في السوق السورية مساحة واعدة للتوسع، وفي الوقت ذاته منصة لإحداث فرق في المشهد الاقتصادي والاجتماعي. هذه الاستثمارات أتت كتحرّك ومكوّن رئيس ضمن سياسة سعودية واضحة، ترتكز على إعادة بناء الدولة السورية، وتعزيز الاستقرار من خلال التنمية، وتحقيق التكامل مع الاقتصاد العربي. لا شك أن البعد الاقتصادي حمل بعدًا سياسيًا أعمق، فالمملكة تنظر إلى سوريا باعتبارها مكونًا عربيًا أصيلًا لا بد أن يستعيد دوره في المنظومة المشتركة قبل اليوم، ومنها كان هناك خطوات استباقية وجهود ماضية حثيثة للسعودية، حيث جاء دعم السعودية لاستعادة سوريا مقعدها في جامعة الدول العربية كخطوة تالية لطريق بدأ بإعادة فتح السفارة، واستمر بدفع الحوارات نحو تشكيل حكومة سورية شاملة، تمثل مكونات المجتمع وتكسر دوائر الانقسام. وعلى المستوى الإنساني، واصلت المملكة جهودها الإغاثية عبر مركز الملك سلمان، وقدمت مساعدات طبية وغذائية وميدانية، خصوصًا في أعقاب زلزال 2023، وكان مئات الآلاف من السوريين في السعودية يتلقون الرعاية والخدمات في إقامة كريمة، ضمن سياسة قائمة على الاحترام والإيواء. الرياض اختارت أن تكون حاضنة للمرحلة الانتقالية، وشريكة في إعادة بناء الجسور بين دمشق والعواصم العربية، حتى في الجانب الأمني، قادت المملكة مبادرات للتنسيق مع الأطراف الدولية لكبح تهريب المخدرات والسلاح عبر الحدود، ودعمت ترتيبات إقليمية لضمان استقرار الجنوب السوري وتحييده عن الفوضى الميليشياوية. الملف السوري في الرؤية السعودية وحكمتها يرتبط بالمنطقة برمتها، إذ إن استقرار سوريا لا ينعزل عن أمن المنطقة بأسرها، وهو ما يفسر التداخل العميق بين السياسة والأمن والاقتصاد في مقاربة المملكة للملف بشكل متكامل. المسار السعودي في الملف السوري تجاوز سياق العروبة والإخاء، بل رسّخ مفهوم الشراكة الحقيقية، حيث التنمية وتحريك عجلة الاستقرار من بوابة الاقتصاد، وهذا النمط الذي تتبناه الرياض هو ما يمثل نمطًا سعوديًا حكيمًا في إدارة النزاعات وتحويلها فرصاً للتكامل والنهوض، ويُعبّر عن مدرسة سياسية ترى أن التأثير يُبنى بالثقة، وأن إعادة الإعمار مشروع سياسي طويل النفس، يرسم الجغرافيا ويعمّق الإخاء والاستقرار الحقيقي للمنطقة. ومن دمشق إلى حلب، ومن حمص إلى درعا، تتقدم الرؤية السعودية كمشروع سلام عربي ناضج، يعيد التوازن للمنطقة ويمنحها فرصة استئناف دورها التاريخي كجسر حضاري يليق بها. ومن سوريا إلى فلسطين واليمن، ومن العراق إلى السودان، تضع المملكة نفسها وتبقى قائدًا سياسيًا وإستراتيجيًّا في المنطقة، كونها الفاعل القادر على تثبيت التوازنات، وبناء العمق، وترسيخ الاستقرار نحو حياة كريمة للمنطقة وشعوبها.