بعض الأوقات من اليوم لا تكون مزدحمة لكنها ثقيلة لا ننجز فيها شيئاً ولا نرتاح تماماً، فقط ننتظر أن يمضي هذا الوقت، ونتطلع إلى لحظة ساكنة ليبدو كل شي طبيعي بينما في الداخل شيءٌ غريب. تساؤلات، قلق خفي أو حتى بعض من الأفكار المؤجلة تعود فجأة بلا موعد. فإذا بكل ما يحدث معنا هو مرآة النفس التي تأتينا في الفراغ الذي يخترقنا أحياناً، ولكن في بعض الأوقات نشعر أنه غياب للحدث بينما هو حضور مكثف للذات، ما نفعله نحنُ في هذا الفراغ قد يكشف عنّا أكثر مما تفعله إنجازاتنا الصاخبة. فالكثير منا يخشاه ويهرب إلى اللهو والتسلية والبعض يحتضنه ويحوله إلى مساحة للتأمل أو التعليم أو إعادة ترتيب النفس والفكر. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ»، وهُنا لم يكن وصف الفراغ بالراحة بل كفرصة مهدرة لن نراها إلا أن امتلكنا وعياً كافياً ليحولها إلى لحظة خلق أو مراجعه أو فهم. الفراغ ليس مفسدة كما يصفه البعض إنما أداة كشف، ولا تفسد النفس إلا اذا كانت خاوية ،والقلب إذا كان هشاً. نعم لا يضيع الإنسان إلا إذا لم يعرف إلى أين يتجه حين يختلي بنفسه، دائماً ما أرى أن الفراغ ليس عدواً إنما مرآة، ولكن ما نفْع تلك المرآة إن لم يكن بداخلنا تلك القوة لمواجهتها؟!. لو رجعنا قليلاً عبر التاريخ لوجدنا أن الفراغ كان مهداً للفكر ومولداً للرؤية فلم يكونوا يخشونه كما نخشاه نحنُ الآن؛ فجلال الدين الرومي كتب أعظم أشعاره في عزلته، ونيتشه تأمّل مفهوم القوة والإرادة في عزلته أيضاً، وابن عربي وجد في الخلوة اتصالاً أعلى بالحقيقة ولم يرها انقطاعاً. وهُنا يظهر الفارق: أنه ليس كُل فراغ عزلة، بالعكس تماماً، فالعزلة أحياناً تكون امتلاء داخلياً ولقاء جوهرياً مع الذات، شرط أن لا تكون هروباً. ماذا لو كان هذا الفراغ هو الفرصة التي نحتاجها لنعرف من نحنُ، ماذا لو كان هذا الفراغ هو مرآة النفس التي لا تُجامل ولا تزيف؟ هل نملك الشجاعه لننظر إليها؟ نعم، يجب نملك تلك الشجاعة ونتوقف، نصمت، نسمح له أن يكشف كُل ما غفلنا عنه، ففيه سيتاح لنا الفُرص لإعادة بناء ثقتنا الداخلية بعيداً عن ضغط الإنجاز أو ضجيج التوقعات، فالفراغ ليس وقتاً زائداً عن الحاجة بل هدية نادرة لمن يعرف كيف يوظفها بما ينفع نفسه ويهذب روحه.