في عالم يزدحم بالكلمات، وتضيع فيه المعاني بين زيف التعبير وازدواجية الخطاب، تظل للبيان سلطته، وللكلمة وقعها حين تُقال كما يجب. في زمن تُقاس فيه القيم بأثرها لا بكثرتها، يصعد البيان، مرة بعد مرة، ليكون المعجزة التي تسبق التحوّل وتُمهّد للتغيير. البيان، في أصله، ليس مجرّد تعبير لغوي يُقال أو يُكتب، بل هو تجلٍ لروح الفكرة، وصوت للموقف، ومرآة لصدق الإنسان. هو الفن الذي يجمع بين المعنى والمبنى، بين الفكرة والإحساس، بين الظاهر والمضمر، ليصنع من الحرف موقفًا، ومن الجملة اتجاهًا، ومن النص أثرًا يدوم. لقد شهد التاريخ محطات فارقة صنعها البيان لا السلاح، والفكر لا الفرض، والكلمة لا القوّة. فها هي خطب المفكرين، ورسائل الأنبياء، وأقوال المصلحين، ونصوص الشعراء، لا تزال تُقرأ وتُتداول، لأنها لم تكن كلمات عابرة، بل بيانات خالدة. البيان، حين يبلغ غايته، لا يكتفي بنقل المعلومة، بل يوقظ الإحساس ويثير السؤال ويحرّك الوعي. يصبح نافذة يرى منها القارئ أفقًا أوسع، ومنصة يقف عليها المبدع ليقدّم ما يتجاوز اللحظة. وفي زمنٍ تتعدد فيه الوسائط، وتتشظّى فيه الأصوات، فإن الحاجة إلى البيان الصادق والمُلهم تصبح أكثر إلحاحًا. لا البيان المُنمق، ولا المُحمَّل بالزخرف، بل ذاك الذي يحمل الحقيقة، ويدافع عن القيمة، ويمنح اللغة مكانتها كوسيلة للفهم والتغيير، لا مجرد أداة للعرض. نعم، قد لا تُغيّر الكلمات العالم وحدها، لكنها تصنع الوعي الذي يغيّره. وهذا ما يجعل البيان، حين يُقال في وقته، ويُكتب من عمق المعنى، أعظم من مجرد نص.. بل معجزة من نوع آخر. لأن الكلمة، حين تُقال كما يجب، تفعل ما لا يفعله غيرها. وهنا تبرز الحاجة إلى البيان الصادق في توظيف المعاني والمعارف لخدمة الإنسان وصناعة حاضر المجتمع ومستقبله. فليس البيان رفاهية لغوية، بل مسؤولية تُلقي على الكاتب والمفكر أمانة صناعة الكلمة التي تُسهم في البناء لا الهدم، وتُحفّز الوعي لا التشتت، وتصنع من المعنى جسرًا نحو غدٍ أفضل لنا جميعًا. فالكلمة الصادقة تظل بداية لكل تغيير حقيقي.