في الأزمنة التي كانت الكلمة فيها تُقاس بثقل معناها، كانت تُقال لتُفهم، أما اليوم فكثيرٌ مما يُقال، يقال لمجرد أن يُقال. نحن لا نعيش عصر الوفرة اللغوية فقط إنما الإنفجار اللغوي. عبارات براقة تصطف في جمل منمقة، لكنها هشة بلا عمق مصطلحات تُستنسخ وتُعاد وأيضاً كلمات تتكاثر. قد يتبادر إلينا أن هذا الانفجار اللغوي هو ظاهرة لغوية بريئة، ولكن هو في الحقيقة هو حالة مربكة فكل شيء فيه يقال لكن لا يُفهم، وكأن اللغة فقدت وظيفتها الأساسية. حتى الخطاب أصبح تكديساً، لا إنتاجاً للمعنى؛ واللغة التي وجدت لتُنير تحولت إلى ضباب كثيف يحجب الحقيقة تحت زُخرف المفردات. لم نعد نبحث عن الكلمات، بل نحاول الهروب منها فكل شيء حولنا يتحدث المنصات والشاشات والإعلانات وحتى الأشخاص، لكن في حقيقة الأمر كلما زاد الكلام قل الفهم كأننا نعيش في زمن تفيض فيه اللغة ويقل فهم الحقيقة. نعم اللغة هي مرآة الفكر إذا انخدشت انخدش وعي الأمة. نعم لا نحتاج إلى مزيد من الشعارات بل إلى من يسأل: هل نعرف ماذا نقول ولماذا نقول؟ من يحرس المعنى إذن؟ ومن يملك الشجاعة ليوقف سيل المفردات؟ نحن نريد لهذه المفردات أن تنير لا أن تُبهر فقط. نريد أن نبطئ حين نكتب ونفكر قبل أن ننشر، أن نقرأ أكثر مما نعلق، وننصت أكثر ما نتكلم، نعم دورنا في هذه اللحظة أن نعيد الاعتبار للكلمة البسيطة العميقه والصادقة؛ لا تلك الكلمات المنمقة والمزخرفة التي لا تسكن العقل ولا تحرك الشعور. وهل نجرؤ نحن كمثقفين أو إعلاميين أن نختار المعنى على حساب الانتشار؟! الإعلامي أو المثقف اليوم ليسا صانعي محتوى فقط، بل أرى أنهما صانعو إدراك وفهم، لأنه يجب أن يكونا أول من يختبر قوة اللغة وأول من يُسمح لهما بإهدارها. أن تكون مثقفاً وإعلامياً يعني أن تكون حارساً وأن تقول للكلمة الناقصة «لا»، أن ترتجع مفرداتك قبل أن تسلمها إلى جمهورك. لأن اللغة في الوعي الجمعي ليست فقط أداة بل بوصلة فكرية. ليس المطلوب أن نُبهر العالم أو بالأخص جمهورنا القاريء والمشاهد بكلمات كبيرة، بل أن نساعدهم على الفهم وان نذكر الصعب ببساطة لا أن نُخفي المعنى والكلمة البسيطة تحت عباءة معقدة. نردد كلمة «الوعي» لكني على يقين أن الأغلب يتغنى بها غير مدرك لمعناها الحقيقي. هُنا تكمن المشكلة لأن الكلمات أصبحت متكررة لدرجة أنها لم تعد تجعلنا نفكر بمعناه المراد توظيفه. وأخيراً لسنا بحاجة إلى المزيد من المتحدثين بل إلى من يصمت ليُنقي المعنى. لم توجد هذه اللغة الجميلة لنملأ بها الفراغات، بل لنفضح بها الزيف ونوقظ الوعي. فما نحتاجه حقاً القليل من الصدق. والكثير من البصيرة.