في أحد مقاهي الطائف، في مساءٍ هادئ بأجوائه المعتدلة وسكونه، دار بيني وبين الزميل القديم الأستاذ صالح الخالدي نقاش حول قضايا التعليم. والأستاذ الخالدي مشرف تربوي متقاعد، وأحد الكفاءات التربوية ذات الخبرة الواسعة في الإدارة المدرسية، والإشراف التربوي، والتدريس داخل المملكة وخارجها، وقد شكّل هذا النقاش منطلق فكرة هذا المقال. في أثناء هذا الحوار، تطرقنا إلى ظاهرة بدأت تتسع في عدد من المناطق، تتمثل في حفلات تكريم الطلاب المتفوقين التي تُنظّم باسم عائلات أو قبائل معينة أو قرى محددة. وعلى الرغم من أن هذه المبادرات تعكس مشاعر الاعتزاز والحرص على دعم المتفوقين، إلا أن التساؤل كان مطروحًا: هل من الممكن أن تتطور هذه المبادرات، فتصبح أكثر شمولًا وعدلًا، إذا نُقلت من الإطار القبلي الضيق إلى مستوى المحافظة أو المنطقة التعليمية؟ وهل يمكن تحويلها إلى مشروع وطني يعكس روح الإنصاف، ويخدم الأهداف التربوية بصورة أعمق؟ لا شك أن تكريم الطلاب المتفوقين يُعد من أفضل المحفزات التعليمية، فهو يُسهم في تعزيز الدافعية الداخلية، ويُرسّخ قيمة الاجتهاد، ويُشعر الطالب بأن جهده لم يذهب سدى. وهذه الممارسة التربوية الأصيلة تستمد مشروعيتها من ديننا الحنيف الذي دعا إلى تكريم أهل العلم، ومن رؤية المملكة 2030 التي تؤكد على دعم التميز وتعزيز القدوات في المجتمع التعليمي. لكن حين يُربط هذا التكريم بإطار قبلي أو عائلي ضيق، فإننا –من حيث لا نشعر– نُقصي شريحة من المتفوقين، أو نُشعرهم بأنهم ليسوا جزءًا من هذا الاحتفاء، لا لسبب سوى أنهم لا ينتمون إلى نفس الاسم العائلي أو الانتماء الاجتماعي. وهذا، في المدى البعيد، يُضعف أثر التكريم، بل قد يحوّله إلى شعور بالفرز الاجتماعي أكثر من كونه رسالة تقدير تربوية. إن ما نحتاج إليه اليوم هو نقلة نوعية في مفهوم التكريم، تُعيد توجيه المبادرات المجتمعية نحو أفق أرحب، وذلك عبر تنظيم حفلات تكريم شاملة على مستوى المحافظات والمناطق التعليمية، برعاية رسمية، وبشراكات مجتمعية من رجال الأعمال والوجهاء، ومن خلال لجان محايدة ومعايير واضحة. وبهذا نُعطي كل طالب متفوق فرصته المتساوية في التقدير، بعيدًا عن الاعتبارات القبلية أو الجغرافية أو الاجتماعية. ومع هذا، لا نُنكر الدور الذي يمكن أن تلعبه العائلة والقبيلة في دعم أبنائها؛ فذلك جزء من نسيجنا الاجتماعي، وله أهميته في بناء اللحمة الداخلية. لكن ما نطرحه هنا هو أن تكون الاحتفالات القبلية مُكمّلة لا بديلة، وتتم في الإطار الخاص، بينما يبقى التكريم العام في يد المؤسسات الرسمية المعنية، بروح وطنية جامعة لا تُقصي ولا تُميّز. بل يمكن أن تتحول هذه المبادرات إلى صناديق دعم تعليمي مستدامة، تُمكّن العائلات والقبائل من تقديم منح تعليمية أو رعاية مشاريع تربوية، أو دعم المراكز التعليمية، بحيث يُوظَّف الفخر بالمتفوقين في بناء أجيال متعلمة، بعيدًا عن التنافس الرمزي أو المظهري. وفي الختام، فالتكريم موقف تربوي لا احتفال اجتماعي، وقيمته تكمن في شموليته وإنصافه. فلنُكرِّم بعقولنا لا بانتماءاتنا، ولنجعل من كل متفوق رمزًا وطنيًا، فالمجد لا يُمنح بالنسب، بل يُصنع بالعلم والعمل.