في زوايا الورش الصغيرة، حيث يختلط عبق الخشب برائحة الماضي، تنهض حرفة المشغولات الخشبية بوصفها أحد أقدم وأعرق الفنون التي خطّت ملامح الحياة في المجتمعات الخليجية، ومن بين هذه الحرف، برزت صناعة المجسمات الخشبية للسفن التقليدية، المستوحاة من قوارب الغوص والبحث عن اللؤلؤ، بوصفها نموذجاً فنياً يجسّد الذاكرة البحرية للخليج العربي، ويُحيي إرثاً طالما ارتبط بروح الشجاعة والمغامرة لرحلات صيد كنوز البحر المتمثلة باللؤلؤ. تتطلب صناعة هذه المجسمات الخشبية دقة عالية ومهارة متوارثة، إذ يعمل الحرفي على تقليد أدق التفاصيل في تصميم السفن التي حملت عدة أسماء حسب أحجامها، ومنها: "البوم" و"الجالبوت" و"السمبوك"، وغيرها من القوارب التي استخدمها البحّارة قديماً في رحلات الغوص. تبدأ العملية باختيار نوع الخشب المناسب، وغالباً ما يُفضَّل خشب الساج، لما يتمتع به من متانة وسهولة التشكيل، ثم تأتي مراحل القص والنحت والتجميع، التي قد تستغرق أسابيع طويلة، قبل أن يُضاف للمجسم شراعٌ مصنوع من القماش، وأحياناً حبالٌ ومجاديفُ ومجسماتٌ صغيرة للغواصين والبحارة في تجسيدٍ دقيق للحياة على سطح السفينة. تتجاوز هذه المجسماتُ كونَها مجرد تحفٍ للزينة، فهي تروي حكاية منطقة عاشت لقرون على صيد اللؤلؤ، وتُذكّر الأجيال الجديدة بقيمة الإرث البحري والمهارات اليدوية التي ساهمت في تشكيل الهوية الخليجية. كما تحوّلت اليوم إلى منتجات ثقافية مطلوبة في الأسواق السياحية، وإلى رموز فنية تزين المتاحف والمعارض والمنازل. وتستمد هذه المجسمات قيمتها من عمق ارتباطها بحرفة صناعة السفن الخشبية الأصلية التي ازدهرت في مدن الساحل الشرقي مثل الدمام والقطيف والهفوف والجبيل في السعودية، إضافة لدول الخليج العربي، فقد كان النجارون المتخصصون في صناعة السفن وصيانتها والمعروفون بلقب "القلاليف" جمع "قلاف" يعملون جنباً إلى جنب داخل الورش الساحلية، في مهن تتطلب مهاراتٍ جسديةً عالية وفهماً عميقاً لأسرار البحر والخشب. وكانت السفينة تُصنع يدوياً بالكامل، اعتماداً على الخبرة الشفهية المتوارثة دون مخطوطات هندسية، في مشهد فني وإنساني فريد من نوعه؛ إلا أن هذه الصناعة العريقة تراجعت بشكل كبير في منتصف القرن العشرين، بعد دخول السفن المصنوعة من الفيبرغلاس (الألياف الزجاجية)، والتي تفوقت في خفة الوزن وسرعة الصنع وقلة التكلفة وسهولة الصيانة. ومع هذا التغير، أُغلقت كثير من تلك الورش، واختفت أصوات المطارق من المرافئ، وغاب الجيل الجديد عن أسرار الحرفة، إلا من قلةٍ تمسّكت بالإرث كهوية لا تزول. ومع إعلان وزارة الثقافة عام 2025 عاماً للحرف اليدوية، بدأت هذه الحرفة تشهد انتعاشاً لافتاً، من خلال برامج الدعم والتدريب التي استهدفت الحرفيين، والمبادرات التسويقية التي أبرزت منتجاتهم محلياً وعالمياً. فالمعارض المقامة ضمن فعاليات عام الحرف اليدوية أسهمت في تسليط الضوء على هذه الأعمال الخشبية، ووفرت للحرفيين منصات عرض احترافية، وجذبت اهتمام الزوار من مختلف الأعمار والثقافات. إضافة إلى ذلك، دخلت التقنيات الحديثة على خط الإنتاج دون أن تمس روح الحرفة، حيث بدأ بعض الحرفيين في استخدام أدوات حديثة لتسهيل عمليات النحت والتفصيل، مع الحفاظ على الطابع التقليدي للمجسمات. وفي الوقت نفسه، ظهرت مبادرات لإشراك الشباب في ورش تدريبية لصقل مهاراتهم وتحفيزهم على مواصلة المسار الإبداعي في هذا المجال. حرفة المشغولات الخشبية، ولا سيما صناعة مجسمات السفن، ليست مجرد ذكرى من زمن الغوص، بل تُمثّل عودة فنية وثقافية إلى الجذور، فبين يدَي كل حرفي، تبحر سفينة صغيرة، لكنها محملة بإرث كبير يُعيد رسم أمواج التاريخ على سطح الحاضر.