في عمق البنية العربية، تتشكل الكلمات بما يشبه الموجات التي تتسع وتنكمش بحسب المعنى. واحدة من أبرز هذه الصيغ هي «فَعَلان»، التي تأتي محمّلة بالحركة، مُشبّعة بالانفعال، وثرية بالإيحاء. حين نقول: غضبان، عطشان، ولهان، سكران، فإننا نرسم صورة لشعور طاغٍ، أو حاجة مُلحّة، أو انفعال يغمر الجسد والنفس معًا. فالصيغة هنا تُشير إلى الحالة وتُضخِّمُها، وتأخذنا إلى تفاصيلها الداخلية، فتنقل لنا الموجة الشعورية ذاتها. وإذا ما انتقلنا إلى سياق القرآن الكريم، وجدنا لهذه الصيغة حضورًا فريدًا، في سورة العنكبوت، يقول الله عز وجل: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) [ 64] الدنيا تُوصَف بأنها «الحياة»، أما الآخرة فوُصفت ب»الحيوان»، وهي على وزن «فَعَلان»، لتدلّ على حياةٍ فائقة، دائمة، كاملة، ليست حياة اعتيادية، بل حياة نابضة بالحيوية، لا يعتريها ضعف ولا يُهددها موت. الصيغة هنا تسهم في بناء المعنى العقَدي والروحي، وترسّخ الفارق بين عالم زائل وآخر خالد، نعم إنها الصيغة التي تُشير إلى الحياة الكاملة في الآخرة. وفي سورة التوبة، يقول تعالى: ( وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) [ 72] اللفظ المستخدم هو «رِضوان»، لا «رضا»، «الرضوان» يدل على رضا واسع ممتد، متصاعد في مقامه، متجدد في أثره. ف»فَعَلان» يرفع الكلمة إلى ذروة معناها، ويمنحها طاقة شعورية وروحية أعمق. هذه الصيغة تُظهر قدرة اللغة على التعبير عن الفكرة وعن طبيعة الشعور وقوّته وامتداده، فالمعاني في العربية لا تُلقى باردة أو مسطّحة، بل تُصاغ بأوزان تحرّكها وتشحنها بالحيوية، «فَعَلان» تمثّل هذا النوع من التشكيل، حيث تصبح الكلمة مشهدًا، ويغدو المعنى حاضرًا بكثافته وحرارته. فمن «الرضوان» الذي يغمر إلى «الحَيَوان» الذي لا ينتهي... تقف صيغة «فَعَلان» شاهدًا على عبقرية العربية، حين تختزل الانفعال في بنية، وتحوّل المعنى إلى كيان حي. إنّ استعمال صيغة «فَعَلان» في الوصف القرآني والبلاغة الشعرية يُفعّل المعنى، ويبعثه حيًّا في ذهن المتلقي. ففي القرآن، كل حرف مقصود، وكل صيغة موظفة بعناية إلهية لبناء المعنى وخلق الأثر وإدراك المراد. المراجع * ابن جني، الخصائص. تحقيق محمد علي النجار، دار الهلال، القاهرة، 1952م. * ابن فارس، معجم مقاييس اللغة. تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، بيروت، 1991م. * الطبري، جامع البيان في تأويل آي القرآن. تحقيق محمود شاكر، دار هجر، القاهرة، 2001م. * عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز. تحقيق محمد رشاد عبد المطلب، دار المعرفة، بيروت. * عبد التواب، رمضان، التطور النحوي للغة العربية. مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 2005م. * عمر، أحمد مختار، معجم الصيغ الصرفية. عالم الكتب، القاهرة، 2008م. * القرطبي، الجامع لأحكام القرآن. تحقيق أحمد البردوني وآخرين، دار الكتب المصرية، القاهرة. * شيخ أمين، بكري، البلاغة العربية: أسسها وعلومها وفنونها. دار العلم للملايين، بيروت، 1986م.