في رحلة الإنسان نحو شواطئ الآمال تنجلي له أشياءٌ كثيرة، وزرابي مبثوثة، ويركبه الغرور في أسفار معرفته الجدلية، وكأنه ينال حظه الوافر من هذه الحياة الفانية، وما هي بتلك وإنما تصوراته التي خدعته حينٌ من الدهر، وظن نفسه ركب أمواج الخلاص. فالأسفار الجدلية التي نعيش تحت ظلال أهدابها لا تستقر بنا على حال ولا نستقر نحن بها على حال أخرى، وإنما نعيش في فلكٍ دائري طورًا نكسب وتارة نخسر. والعقل منا يدرك ذلك الإدراك؛ لا وفق إرادته المحضة، وإنما وفق الطبيعة البشرية التي جُبلت على مسايرة السنن الكونية، إذ يستحيل على الإنسان أن يفكر لوحده وأن يشاء لوحده ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ). فكل شيءٍ في هذه الحياة مرسومٌ وفق إرادةٍ مطلقة. فالإرادة الموهوبة لنا؛ هي التي تخرج القوة من مكامنها وهي منبعٌ نيرفانيٌ خالص وحين يشوبها شائبة؛ أي العقل الظاهر تخرج من صفائها النيرفاني وتخوض في مسلك الوعي والإحساس فتتمخض التفاصيل الصغيرة الهائفة وتصبح كالجبال الوعرة ليس بوسعك تعبيد طريقٍ مستقيم. فليس كل تفاصيل حياتنا على سواء، فهي على حسب موضعها الجدلي، منها تسلب عقلك وتشتت ذهنك، وأخرى تستجيب لحياتك وتمنحك الراحة والأمان. هذا إذا أطلقنا تركيزنا من دون إرادة عاقلة، والعقل لا يكون عقلاً إلا والنفس حاضرة بحضورها الكامل، فهي بالأخير رغبات وينبغي على تلك الرغبات أن تكون عادلة في طلباتها مستقيمة فيما تريد. وإن اختل هذا الميزان سقط الإنسان بوحل ذاتهِ محاطًا بإسوارة محدود التطلعات لا يكاد يفقه شيئا من هذا المجال الذي هو فيه فتضيق به الدائرة، وهي دائرة النفس التي خاضت وماجت برغباتها الجاهلة. إذًا عندما تهتز إرادة الإنسان يصبح سجين ذاته تغيب عنه كل التصورات ولا تبقى له إلا صورة واحدة وهي صورة نفسه. فالحياة مجموعة من الصور ولعل الصورة العظمى هي صورة الكون وما فيه من قصص وأسفار زمنية، فالكون منحنا إرادة ذكية نستخرجها من ظواهرها الحقيقية لا الوهمية. فكل شيء من حولنا ظواهرٌ فسرتها عقولنا على حقيقتها لا مجازًا ولا خيالًا، أو أن ذهني صورها لي كما صورتها فلسفة بيركلي.. كلا فليس بوسع الإنسان أن يصور أشياءً غير موجودة وهي موجودة بالأساس. فهذه ليست من صميم الإرادة الذهنية، وإنما مرادها مرتبطٌ بما تقع عليه حواسنا ثم يفسرها العقل حتى تكتمل الصورة في ذهننا، إن كان هذا الشيء هو أو بذاته المادية أو خدعتنا أنفسنا الشاردة وصورتنا الأشياء على نقصانها لا اكتمالها، فكل الحيثيات لا بد أن تكون في غاية الدقة فجمالها الحقيقي يدل على مكمنها الطبيعي. إذ كلما أصبحت أخلاقنا جميلة دلت على صفاء إنسانيتنا.