كنت في عشاء مع قيادي في شركة طيران من اليابان. سألته: "كيف ترى مستقبلكم في التنافس عالمياً وعدد من شركات الطيران تتفوق عليكم في الكثير من النواحي من حيث الرفاهية ونوعية الخدمات ووجهات السفر؟ ألا تخشون من أن تخسروا حصة سوق السياح اليابانيين المسافرين للخارج؟".. أجابني القيادي الياباني بهدوء وثقة: "لا يوجد هنالك ما أخشاه لأننا كشركة واثقون من نوعية خدماتنا وجودتها وتقدير زبائننا خاصة في اليابان لمستوى خدماتنا". كان من الواضح دون أن أتكلم أن إجابته لم تكن مقنعة بالنسبة لي. فتابع الصديق الياباني بقوله: "زبائننا يعلمون مستوى حرصنا على السلامة والفحوصات التقنية والإجراءات وتدريب الطاقم عليها، كما يعلم زبائننا مدى حرصنا على أمتعتهم وألا تتعرض لأي صدمات أو تلف، هل تصدق أنني كنت أجري في أحد المطارات الأوروبية الكبرى بنفسي وأنا مدير المحطة لأضمن أن حقائب الزبائن القادمة على متن خطوط أخرى سيتم نقلها في الوقت وبدون أي مشكلات إلى طائرة شركتنا خلال فترة الترانزيت؟". ولكي أكون منصفاً فهنالك أشخاص من معارفي في اليابان يرفضون ركوب أي طائرة لخطوط طيران أجنبية ويصرون على خطوط الطيران اليابانية، ومع احترامي لهذا الحرص الشديد والإتقان في العمل، لكنني أوضحت للقيادي الياباني أن الكثيرين حول العالم لا يعرفون عن هذه الحقائق التي تتطلب حملات اتصالية وتسويقية احترافية للجمهور العالمي، وفي الوقت نفسه فهذا التفوق في تلك الخدمات لا ينبغي أن يتعارض مع السعي في تحسين وتطوير بقية الخدمات ومستوى الضيافة لركاب الطائرات. ونجد هذه الفلسفة اليابانية الإدارية متجسدة في مطار كانساي الدولي على ضواحي مدينة أوساكا الذي لم يسجل حالة واحدة لفقدان الأمتعة على مدى ثلاثين عاماً، واستطاع أن يفوز بالمراتب الأولى عالمياً بجائزة سكاي تراكس في مجال توصيل الأمتعة رغم أن المطار يخدم سنوياً عشرين إلى ثلاثين مليون مسافر، بطبيعة الحال فهذا التميز لم يكن قائماً على الذكاء الصناعي من ثلاثين سنة أو عوامل تقنية فحسب، بل نتيجة لفحص وتدقيق متعدد المستويات، حيث يتم التأكد من أصناف وأعداد حقائب كل طائرة ومعلومات عبور الركاب الخاصة بها من قبل اثنين أو ثلاثة موظفين. وبلا شك فهذه أرقام عظيمة ومدعاة للفخر للعاملين في المطار، ولكن ومجدداً فمع التسليم بأهمية هذه العوامل فليست المعايير الوحيدة التي يتم قياس النجاح عليها. ولتقريب الصورة، ففي بطولات كأس العالم وغيرها من البطولات التحدي هو الفوز بالكأس والميدالية الذهبية، من الجميل أن تحقق جائزة اللعب النظيف ولكن هذا ليس هو الطموح النهائي لفريق يتطلع للمنافسة الحقيقية. وفي الوقت نفسه، ليس من التميز أن يكون المطار أو الشركة ناجحين تجارياً بأرباح عالية مع إهمال لإجراءات السلامة والأمن للركاب والمسافرين، بالعكس سيكون ذلك فشلاً ذريعاً وربما جريمة في حال وقعت أزمة أو حادثة كبرى. باختصار، كل قائد ومدير يسعى للنجاح.. قد تختلف آلية قياس النجاح من منظمة لأخرى ومن شخص لآخر، البعض يسعى للنتائج فقط بغض النظر عن الوسيلة وهذا خطأ وخطر كبير. وهنالك آخرون يركزون على الوسيلة والإجراءات مع عدم التركيز على النتائج وهذا أيضاً خطأ وخطر على المدى المتوسط والطويل.. وكما أن الصلاة لا تقبل بدون وضوء فنجاح النتائج مربوط بصحة الإجراءات وجودة الأدوات والخطوات نحو ذلك النجاح.