لا شك أن الذكاء يأسر العقول، ويشد الإنتباه، ويقرب البعيد ويدني القاصي ويغير من مجريات الأمور ويعلو بصاحبه فوق الأهوال، حتى يجعل من عظائم الأمور صغائر، ومن العقبات سلّمًا للعبور. وقد عُرف أبناء الجزيرة العربية بدهائهم وبُعد نظرهم، ذلك أن الحياة في بطن الصحراء قاسيةٌ لا تُدِلل، تتربص بها الغارات، وتتناثر في فضائها الوحوش، وتشح فيها الموارد، فلا يجد الإنسان مفرًّا إلا باستنهاض كل حواسه ليصوغ لنفسه سُبل النجاة في بيئة يُختبر فيها الذكاء قبل القوة. وقد ذكر المؤرخون أن للعرب أربعة من دهاة الحيلة، هم: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة الثقفي، وزياد بن أبيه. ومن الطبيعي أن نجد من يُفتن بسير هؤلاء، فيغوص في أخبارهم، ويتأمل مواقفهم، ويستلهم من دهائهم دروسًا في الفطنة وفن إدارة الأحداث والتعامل مع مجريات الأمور بسلاسة. ولذا لم يكن غريبًا أن يخصّهم العقاد بمؤلفات مستقلة، تناول فيها شخصيات معاوية وعمرو بإعجاب وتحليل، كاشفًا عن سمات قيادية فريدة، وخطط سياسية نادرة، وحكمة تستحق أن تُدرَّس. ولو تأملنا في شخصية عمرو بن العاص، لوجدناه فارس المواقف الصعبة، يعتلي الأزمات كما يعتلي الملك عرشه، ثابت النظرة، حاضر البديهة، واثقًا من رجاحة عقله. كان يقول: "عليكم بكل أمر مزلقة مهلكة". يقول العقاد معلّقًا على هذه المقولة: "لأنه كان على ثقة بدهائه كلما ثاب إليه، وعلى وفاء لطباع الإقدام والاقتحام التي تقترن بالعبقرية وتنبع من دوافع الحيوية." ويتميّز تعليق العقاد بأسلوبه الاستدراكي التقويمي، فهو لا يكتفي بإبراز ثقة عمرو بنفسه، بل يلفت انتباهنا إلى أن اقتحام المصاعب والمهالك أمرٌ محمود، لأنه يُنمّي الإنسان ويطوّره؛ فالبقاء في منطقة الراحة يقتل أنبل ما فيه، بينما تسلّحه الشدائد بالخبرة وتمكّنه من حسن التعامل معها. لكنه في الوقت ذاته يشير إلى ضرورة أن يكون الإنسان واعيًا بحدود عقله وعبقريته، واثق الخطى في خضم الأزمات، حيويًا لا كسولًا، مقدامًا لا متهوّرًا، لا يقتحم الصعاب ثم يتراخى ويستكين. هذا النهج يستلهم روح الفروسية، حيث الإقدام محفوف بالخطر، لكن المكسب كبير، كما أن الخسارة جسيمة. وقد عبّر معاوية رضي الله عنه عن هذه الفلسفة بقوله: "من طلب عظيمًا خاطر بعظيمته"، أي بنفسه. ولو شئنا تشبيه دهاء عمرو بن العاص بلغة اليوم، لقلنا إنه فن إدارة الأزمات، واليقظة والوعي بدقائق اللحظة.