تحول البخل في المجتمعات الحديثة إلى استراتيجية اجتماعية - اقتصادية خفية ضمن أنظمة السوق والرأسمالية الجديدة، فالبخيل المعاصر أصبح جزءاً من البنية الاقتصادية الحديثة، ويمارس «اقتصاديات البخل» باعتبارها ذكاءً مالياً، ويجد مبررات اجتماعية وثقافية لسلوكه. وأصبحت نوادر البخلاء تشكل عرضًا مسرحيًا فكاهيًا في المجالس، وجانب الإضحاك فيها يكون في قفلة المباغتة في سلوك البخيل أو رد فعله الذي يكون مخالفًا للمنطق ومخترقًا للذوق بجرأة ووضوح. وقد ارتبط البخل بالمال، رغم وجود بخلاء ماليًا، لكنهم كرماء في بذل الوجاهة لمن يحتاجها وبذل العلم للعموم والتعبير عن المشاعر. وهذا ما يدعو للتساؤل حول ماهية البخل وتحولاته عبر الزمن، وهل يعتبر جينات وراثية أم أنه مكتسب بسبب ظروف الحياة أم استراتيجية دبلوماسية لإظهار الحزم والحرص؟ أنماط البخلاء كان البخيل في المجتمعات التقليدية عارًا علنيًا؛ لأنه يهدد التضامن الاجتماعي الذي يعتبر أساس الأمن المجتمعي. أما في المجتمعات الحديثة، فصار مبررًا كنوع من «الإدارة المالية الناجحة»، مما أوجد أنواعًا من البخل، من أبرزها: البخل بالمال: وهو الأكثر شيوعًا، ويتفاوت بين البخل على النفس أو على الأهل أو على الأصدقاء والأقارب أو على المستحقين من الفقراء أو على المجتمع العام، وقد يوجد في الإنسان بخل بها كلها أو ببعضها. البخل بالجاه والمكانة الاجتماعية: بعض الأثرياء لا يستخدمون نفوذهم وعلاقاتهم لمساعدة الآخرين؛ لأنهم يرون أن الوقت مال، والجاه مال، ولا يمكن بذلها إلا بمقابل مادي أو معنوي. البخل بالعلم والخبرات: بعض العلماء والباحثين وأصحاب الخبرات في مجالاتهم، يحجبون علمهم وخبراتهم خشية أن يستفيد الآخرون دون مقابل. البخل بالمشاعر: يوجد أشخاص لا يبدون مشاعر الفرح والتضامن والحزن لمن حولهم، ويحرصون على إبقاء مشاعرهم صماء لا تعابير فيها؛ إلا لمن يمكن الاستفادة منه أو الخوف منه. وتسمح الثقافة الغربية بإعلان البخل والفخر به وتبريره، كما يفعل بخلاء خراسان والبصرة في زمن الجاحظ، ولكن الثقافة العربية تعتبره وصماً، فلا يرغب أحد إلا أن يظهر بالصورة المثالية لا الواقعية. البخل في التراث العربي والغربي جمعت عشرات من قصص البخلاء وحكاياهم في التراث العربي، ووجدتها تسير في اتجاه واحد، وهو أن البخل قيمة في ذاته، والبخيل يوجه قدراته العقلية على حماية ماله، وبالتالي فيمكن أن يوجد سخي على نفسه وبخيل على الآخرين، وبخيل في ماله سخي بجاهه ووقته وجهده، وبخيل ذو منصب ووجاهة، فالبخل صفة محتقرة بذاتها، ولكنها لا تجلب معها بالضرورة مصفوفة قيم اللؤم. حلّل الجاحظ نفسية البخلاء، وقدم أول دراسة مينوفينولوجية «ظاهراتية» من خلال قدرة البخلاء على إضفاء معاني عقلانية لسلوك غير عقلاني المتمثل في البخل، وتسميتهم البخل صلاحاً، والشح اقتصاداً، والمنع حزماً، والجود إسرافاً. وركز على نوادر بخلاء خراسان وأهل مرو خاصة، وبخلاء البصرة الذين سماهم «أهل الجمع والمنع». ودرس عبدالفتاح كيليطو كتاب «البخلاء»، وتبين له أنه بقدر ما يحب البخيل الحكايات التي تحث على البخل، بقدر ما يرتاب من الحكايات التي تحرض على الجود وتشيد بفضائل شخصيات مشهورة بالكرم. إلا أن البخيل أيضًا جزء من نسيج المجتمع ويستمتع بنوادر البخلاء، ويصنف نفسه أنه لا ينتمي لهم، أو هكذا يريد أن يسجل موقفه منهم. أهم ما كتب عن أدب البخلاء، كتاب «البخلاء» للجاحظ في الشرق، و»مسرحية البخيل» لموليير عن البخيل هارباغون في القرن السابع عشر بفرنسا. والقاسم المشترك بينهما يكمن في نقد البخل بأسلوب ساخر ومدعم بقصص ومواقف مضحكة تجعل من شخصية البخل باهتة، إلا أن بخلاء الجاحظ في محيط المجتمع، وبخل هارباغون في محيط أسرته. لماذا يحترم الناس البخلاء رغم ازدراء المجتمع لهم؟ رغم ذم البخل والبخلاء ما زلنا نجد تقدير الثري البخيل وتوقيره وبذل الاحترام المفرط لحضوره وتصديره المجالس، مع علم الجميع بأنه بخيل، وربما تندروا بقصص بخله، ولديهم يقين بأنه لن ينالهم شيء من ثروته ولا ترشيحه لأحد لمنصب أو علاقة اجتماعية مميزة. وتشبه هذه الظاهرة حب البدو للذئب رغم أنه يأكل حلالهم، ولكن السمة المشتركة في الإعجاب بالقدرات الخارقة. ويصعب إخضاع دراسة البخل للقياس؛ وذلك لأنه لا تعريف واضح له، وينطوي على حالات نفسية معقدة وإنكار وادعاء وتقييم مزيف وحقيقي بحسب المصالح، وبالتالي سيكون التحليل من تأملات اجتماعية وفلسفية. هل العلة في البخيل أم في ثقافة المجتمع، أم أن الهيبة والاحترام المفرط يكمن في هيبة المال لذاته؟ ولماذا يتمسك الناس بالبخيل؟ الإنسان مكون من صفات كثيرة، ولذلك يتمسك الناس بالبخيل لرغبتهم في فصاحته وظرفه وخبراته في الحياة، ولا يعنيهم ماله ولا يحتاجون إليه. رغم أن البخل ظاهرة قديمة قِدم الأسواق نفسها، إلا أن المجتمعات المعاصرة لم تكتفِ برصدها، بل طوّرت حولها ثقافة شعبية قائمة على التندر، خصوصًا حين يكون البخيل من أصحاب الثروة الطائلة. ويبدو أن المفارقة بين الثراء الفاحش والتقتير المرضي تمنح هذه الظاهرة طابعًا دراميًا كوميديًا، يُسهم في تكريسها كواحدة من الظواهر الجديرة بالدراسة الاجتماعية والاقتصادية، وربما النفسية كذلك. فمن الطرائف المعاصرة التي يتداولها الناس، قصة أحد ملاك البنوك الذي استشاط غضبًا لأن مدير الفرع ترك نصف كوب شاي حتى برد ولم يشربه! المثير أن هذا البخل لم يعد سلوكًا فرديًا بل تحول إلى ما يمكن تسميته ب»منظومة تفكير اقتصادية غير واعية»، إذ يُقوّم الثري البخيل كل شيء –من الولائم إلى نوعية الحلوى– بمعايير الكفاءة السعرية. فهو يختار المطاعم التي تقدم الخدمة بثمن أقل، ثم يخوض جدالاً فلسفيًا مطولًا ليثبت أنها الأفضل. وفي الثمانينات، انتشرت لوحات فنية في المجالس، مرسوم عليها ورقة نقدية فئة مئة ريال تتوسطها ساعة. وقد لوحظ أن أكثر من كان يعلّقها هم البخلاء، على ما يبدو ليس حبًا في الفن، بل لأن رؤية المال –ولو على جدار– تُعد جرعة تحفيزية! وهم يعتقدون –بسذاجة محببة– أن الضيوف يشعرون بالسعادة أيضًا عند رؤية صورة المال، وكأنها ديكور نفسي يمنح الضيف الإحساس بالأمان المالي ولو مؤقتًا. ولو نظرنا إلى البخل من زاوية أنثروبولوجية، كما كان يفعل الجاحظ، لوجدنا أمثلة معاصرة لا تقل غرابة. فهناك أحد أثرياء «الجمع والمنع»، الذي يجمع أكبر عدد من المدعوين في وليمة واحدة، لا حبًا في التواصل الاجتماعي، بل ليضمن «استهلاكًا اقتصاديًا» للطعام دون فائض يُهدر. ويحرص بعد الوليمة على الاتصال بالضيوف في اليوم التالي، لا لشكرهم، بل لشرح القيمة الغذائية الصحية للطعام الذي قدمه وجودة اللحوم، وكأن كل وليمة عنده ورشة تغذية جماعية. أما في اللقاءات الودية، فهناك من يأتي بسلة تمر أو حلوى، ثم يبدأ بجولة على الحضور للتأكد أن الجميع تذوقها. ليتصدر المجلس، ليس بفضل أفكاره وعرض خبراته في الحياة، بل يظل حضوره مساهمة غذائية أكثر منه فكرية. ونجد الملياردير الذي طوّر علاقات استراتيجية مع قضاة ومحامين متقاعدين، بهدف الحصول على استشارات قانونية مجانية تحت غطاء «الود والصداقة». لكنه نسي –أو تجاهل– أن بعض المحامين يتبنون مبدأ: «المعلومة الخطيرة بثمنها». وبالفعل، في إحدى القضايا، احتفظ محامٍ بثغرة قانونية لم يُبلغه بها، واستغلها لصالح خصمه، ليربح من ورائها الملايين. إنها عدالة كونية تُعيد التوازن، ولو بشكل غير قانوني! هذه النماذج تكشف عن ظاهرة اجتماعية واقتصادية عميقة، يتقاطع فيها البخل مع فلسفة التملك والخوف من الفقد، وتتجلى فيها أشكال من السلوك البشري الذي يتجاوز الجانب المادي، ليلامس حدود الهوس التنظيمي، والتحكم، والتقنين المفرط في المشاعر والموارد. وإذا أضفنا قصص بخل الناس العاديين، فسوف نجمع معجم لنوادر البخلاء الجدد، فإذا فتح هذا الموضوع في مجلس، يكاد يتوحد المجلس ويطول ويشعر بالتجانس والمتعة؛ لأن كل واحد يحفظ في ذاكرته نوادر البخلاء الذين يعرفهم أو يسمع بهم. قد يتحول البخل من رذيلة أخلاقية، في حالات معينة إلى حكمة وحرص؛ ولذلك ينفذ البخلاء من هذه الحالات لتصنيف أنفسهم بأنهم مدخرون وحكماء. وتحث تعاليم الإسلام على بذل المال بالزكاة والصدقة والهدية والوقف؛ ولذلك نلحظ كثيراً من التجار الأثرياء مصنفين بخلاء، وتدور حولهم قصص كثيرة في التصعيد عند تفاصيل لا يؤبه لها، وفي آخر أعمارهم يوقفون مليارات الريالات، ثم يعاد استثمارها باسم الأوقاف، ولا يصرف منها إلا بحدود ما يسد رمق الفقراء، ولا ينتشلهم من طبقة الفقر إلى الطبقة الوسطى. ويذهب فلاسفة العصر الحديث إلى خطورة البخل على النمو الاقتصادي؛ إذ يرى آدم سميث في «ثروة الأمم» أن الادخار المفرط يضر بالاقتصاد؛ لأنه يقلل من حجم التداول النقدي. الاقتصاد النفسي للبخيل تشير بعض الدراسات إلى أن السلوك المالي يتأثر بالعوامل الوراثية، والتنشئة الاجتماعية والبيئة الاقتصادية التي عاش فيها البخيل. ويعاني البخيل من منظور الاقتصاد السلوكي من التحيز المعرفي تجعله يبالغ في تقدير أهمية المال والخوف من فقدانه، فهو يرى كل صرف يعني خسارة مؤكدة، ويبحث عن بدائل أقل كلفة، ويؤمن بأن المال مورد نادر لا يعوض؛ لذلك يردد المثل: «المال عديل الروح»، ولديه رغبة جامحة في تخزين المال لذات المال. وفي المقابل يوجد ثقافة اجتماعية راسخة وغريبة، وهي هيبة المال، والتعامل مع الأثرياء باعتبارهم شخصيات خارقة ومهيبة، رغم تأكد الناس العاديين أنهم لن ينالهم شيء من أموالهم. في مجتمع التجار تنشأ قيم الحرص والادخار ومراقبة أدق تفاصيل المال وحساب العوائد المعنوية والمالية من صرفه، وبالتالي فهذا السلوك يعتبر عندهم حكمة وترشيدا وحزما، بدليل أن نتائجه مضمونة في جمع الثروة التي هي أحد محددات الوجاهة الاجتماعية. بينما نجد المجتمع العام يصم التجار بالبخل وخرق العادات الاجتماعية التي تحث عن التضامن وتبادل المنافع المادية والمعنوية. ومن البخلاء الجدد، الإداري العملي، فإذا وجد مسؤولاً عن موظفين لا يصرف مكافآت إلا بحقها، وسط إداريين ينفقون بسخاء مفرط، بحق وبغير حق، سرعان ما ينشأ رأي عام بأنهم كرماء، وهو البخيل. وهذا يعني أن مفهوم البخل يخضع لمعايير البيئة التي ينشأ بها، وبهذا يكون للبخل ثقافات فرعية، وجزء من الذوق الاجتماعي في الحكم عليه يكون تعسفيًا ونابعًا من أنانية ومصالح شخصية. وازدهرت فكرة «خفض التكاليف» في ريادة الأعمال، وأصبح رواد الأعمال في المقاهي والمطاعم والشركات عامة يسعون لخفض التكلفة بتقليص نفقات يرونها صغيرة، ولا يتنبه لها الزبائن والعملاء، ثم تكون هي أساس انهيار سوقهم وتضرر سمعتهم. وغالبًا من يتبع هذه السياسات لا يدرك أن «العميل الصامت» أخطر من العميل المحتج. ختام البخل ظاهرة إنسانية قديمة، وتأخذ أشكالًا جديدة تبعًا للتحولات الاجتماعية والاقتصادية، وقد كان البخيل التقليدي من «أهل الجمع والمنع»، وأصبح يتخذ أساليب أكثر تعقيدًا وحداثة. ومع تقدم الوعي الاجتماعي توسع مفهوم البخل بالمال إلى البخل بالجاه والعلاقات الاجتماعية وبالعواطف والمعلومات والخبرات. ولم يعد يظهر البخل بشكل صريح ومباشر كما كان في السابق، ولكنه يتبع استراتيجيات اقتصادية خفية وناعمة وغير محسوسة في التفاعل الاجتماعي العفوي.