إن بدء جولة ترمب من السعودية، يمكن قراءته في إطار رغبة واشنطن إعادة تثبيت حضورها الاقتصادي في منطقة الخليج، لا كمنافس للصين فقط، بل كصانع ائتلافات تجارية جديدة في عالم متعدد الأقطاب، ومن هنا، فإن التحركات الأميركية تُقرأ بعين استثمارية لا تقل أهمية عن التقييمات الجيوسياسية.. تُستهل زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى المملكة غدًا بقدر كبير من الرمزية السياسية والديناميات الاقتصادية، في وقت تشهد فيه العلاقات بين الرياضوواشنطن مرحلة جديدة من التمكين المتبادل والانفتاح الاستثماري الطموح، وأن يبدأ ترمب جولته الخليجية من الرياض، فهي -في رأيي- رسالة سياسية واقتصادية واضحة تعكس إدراكاً أميركيًا لأهمية بلادنا كمركز ثقل إقليمي ومحور استثماري عالمي ناشئ. منذ إطلاق "رؤية السعودية 2030" تحولت المملكة إلى فاعل اقتصادي عالمي يتجاوز دورها التقليدي كمصدر للطاقة؛ لأنها أعادت هيكلة المنظومة الاستثمارية من خلال صندوق الاستثمارات العامة، وتشريعات تمكينية، وتحفيز بيئة ريادية تستقطب كبرى الشركات العالمية، وفي هذا السياق، تأتي زيارة ترمب كفرصة لتعزيز الاستثمارات الثنائية، خاصة وأن الرياض تُعِدّ العدة لتكون منصة انطلاق لصناعات المستقبل، من الذكاء الاصطناعي إلى الاقتصاد الأخضر. الزيارة تأتي في لحظة محورية، فعلى الصعيد الأميركي، تسعى إدارة ترمب لإعادة هندسة السياسة الاقتصادية الأميركية بما يُعيد التوازن لسلاسل التوريد، ويعزز من مكانتها كمنافس استثماري في مواجهة الصعود الآسيوي، وأما على الجانب السعودي، فالمملكة تدخل مرحلة تنفيذية عميقة في مشاريع نيوم، وتروج لفرص تمويل واعدة في البنية التحتية والتقنية والطاقة النظيفة، وهذا التقاطع بين الطموحين يفسر جزئياً الدفع القوي باتجاه عقد منتدى الاستثمار السعودي - الأميركي بحضور نخبة من كبار التنفيذيين الأميركيين. لا يمكن فصل الأسماء المشاركة عن مضمون الزيارة، فحضور لاري فينك (بلاك روك)، وجاين فريزر (سيتي غروب) وآرفيند كريشنا (آي بي إم) وستيفن شوارزمان (بلاكستون) وروث بورات (غوغل وألفابت) يعني أن الزيارة تتجاوز اللقاءات البروتوكولية إلى تعاقدات استراتيجية في قطاعات المال والتقنية والطاقة والاستثمار في البنية التحتية الرقمية، ما يعني أن هذه التركيبة تُشير إلى أن واشنطن تنظر إلى الرياض بوصفها شريكًا في إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي، لا مجرد سوق مستهدفة. التأكيد السعودي على أهمية عقد اللقاءات الثنائية بين شركات القطاعين الخاصين من الجانبين ينسجم مع فلسفة "المملكة المُضيفة للمستقبل" الرياض لم تعد تبحث عن شراكات تجارية تقليدية، بل عن تكامل نوعي في سلاسل الابتكار والتصنيع والتقنية، وهو ما يعكسه انخراط شركات مثل كوالكوم وآي بي إم في المنتدى. بلغة الأرقام، تتطلع المملكة إلى توسيع نطاق الاستثمارات الأميركية فيها إلى أكثر من 600 مليار دولار خلال السنوات الأربع القادمة، بحسب التصريحات الأخيرة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان. ما يهم الالتفات إليه هنا، هو أن ترمب أشار مؤخراً إلى رغبة بلاده في إنشاء صندوق سيادي قوي يُحاكي صندوق الاستثمارات العامة السعودي، ورغم الطابع الإعلامي لهذا التصريح، إلا أنه يكشف إدراكاً أميركيًا أن أدوات القوة الاقتصادية قد تغيّرت، وأن صناديق الثروة السيادية باتت تؤدي دوراً محورياً في إعادة توزيع النفوذ، والمملكة اليوم، من خلال ذراعها السيادي، تجاوزت فكرة مُستقبل للاستثمار، إلى فاعل دولي يمول، ويوجه، ويبتكر. إن بدء جولة ترمب من السعودية، يمكن قراءته أيضاً في إطار رغبة واشنطن إعادة تثبيت حضورها الاقتصادي في منطقة الخليج، لا كمنافس للصين فقط، بل كصانع ائتلافات تجارية جديدة في عالم متعدد الأقطاب، ومن هنا، فإن التحركات الأميركية تُقرأ بعين استثمارية لا تقل أهمية عن التقييمات الجيوسياسية. زيارة الرئيس الأميركي إلى السعودية لا تقتصر على توقيع مذكرات تفاهم أو لقاءات منتدى اقتصادي، بل تعبّر عن هندسة جديدة لمسار الشراكة بين أكبر اقتصادين في العالمين العربي والغربي، لماذا؟ لأن المملكة تُقدم اليوم نموذجًا ناضجًا لعولمة جديدة تُدار من الجنوب العالمي لا تُفرض عليه، بينما تأتي واشنطن بتوجه واقعي يعترف بحجم التغيير، وإذا كانت الرؤية السعودية تَسعى لإعادة تعريف التموضع الجيو-اقتصادي للمملكة، فإن زيارة ترمب تُعد أحد أبرز مشاهد تحقق هذا التغيير على المسرح الدولي.. دمتم بخير.