نحمد الله أن أنعم علينا بنعم عظيمة، وإحدى هذه النعم هذا الوطن الصالح أهله، الحكيمة قيادته ولا يمكن لأحد أن ينكر أننا في هذا العصر نشهد أقوى حرب على الفساد في العالم قياسا بعدالتها وجديتها وشموليتها، وما على المواطن الصالح إلا البلاغ السهل السري المأمون، كما أن تقنيات هذا العصر ووسائل تواصله (إذا سخرت لعمل الخير) تتيح قنوات أيسر للتواصل والتبليغ عن كل أشكال القصور. في السبعينات والثمانينات والتسعينات الميلادية لم تكن تلك التقنيات ووسائل الاتصال السهلة متوفرة ومع ذلك لا يخلو من يحمل حسا إنسانيا ووطنيا من قدرة على إيصال بلاغه ومقترحاته فالأبواب مفتوحة وقبلها القلوب لكل مواطن صالح، لذا لم نكن نجد جهدا في إيصال ما نريد سواء ككتاب رأي عبر المقالات أو عبر الخطابات والبرقيات وعبر من يوصل المعلومة من القريبين من المسؤول أو صاحب القرار وزيرا كان أو وكيلا أو رئيس هيئة، فوطننا يتميز -ولله الحمد- بكثرة الغيورين المتحمسين لفعل الخير والصالحين الموثوقين. أذكر في أواسط الثمانينات الميلادية وكنت محاضرا بكلية الصيدلة بجامعة الملك سعود أن بعض أعضاء هيئة التدريس وأنا لاحظنا أن عمال النظافة في الكلية يعانون ضيق ذات اليد ولا يجدون ما يأكلون حتى أنهم يأكلون ما يجدون من شطائر فوق مكاتبنا، وعندما تقصيت عن أمرهم (وكنت صحافيا في جريدة الجزيرة) علمت أنهم أعداد كبيرة في كل الجامعة يتبعون لمقاول غير سعودي لم يصرف رواتبهم لثمانية أشهر فألمحت للأمر في مقالة بالجريدة دون تصريح باسم المقاول أو مؤسسته ثم ذهبت لوكيل الجامعة آنذاك الدكتور حمود البدر وأبلغته بالأمر وكان، أمد الله في عمره، لطيفا متفهما وحليما في كل أحواله وكنت شابا متقدا ولا أقول عجولا ولكن صحافيا لا أتحمل التأجيل فاستعنت بفضيلة الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر مستشار سماحة الشيخ ابن باز -تغمدهما الله بواسع رحمته-، وكانت جريدة الجزيرة تستعين بعلمه الغزير، وطلبت منه موعدا مع الشيخ ابن باز وحدد لي موعدا، وعندما حضر الشيخ ابن باز رأيت ما لم أره من قبل فما أن سلم الشيخ وقبل أن يستوي جالسا على كرسيه رفع (شماغه) عن أذنه ليستمع لكاتبه يتلو ما في المعاملة تلو الأخرى (غالبيتنا حين ندخل المكتب نسترخي ونتناول القهوة ونطالع الصحف قبل أن نفتح أول معاملة، أما سماحته فلم يضع ثانية واحدة)، ولما وصل دوري قرأ كاتبه خطابي فأخذ سماحته يردد (لا حول ولا قوة إلا بالله)، ثم تثبت مني عن الموقف كاملا وسألني عدة أسئلة ليتأكد ثم غادرت ولم يمض إلا يوم واحد ورأيت أثر تدخله فيبدو أنه نبه إلى وجود توجيه كريم من الملك فهد -رحمه الله- بأن أي مقاول أو شركة متعاقدة مع جهة حكومية تتأخر في صرف مستحقات موظفيها تقوم الجهة باقتطاع حقوق الموظفين من مستحقات الشركة وتصرف للموظفين عن طريق الشركة، وفعلا تم صرف مستحقات العمال خلال أقل من أسبوع. أما الموقف الثاني فكان حوالي عام 2005م وكان دوائيا حيث لاحظت أن إحدى شركات الأدوية تعلن في قنوات فضائية غير حكومية عن مقوٍّ جنسي بطريقة غير لائقة بل وقحة ويكون إعلانها في أوقات يشاهد فيها الأطفال التلفاز بل وبين أشواط المباريات، فكتبت عن ذلك في هذه الصحيفة الغراء ونبهت له في حوارات متلفزة معترضا على هذا الإعلان ومنطلقا من ثلاث حجج، تكفي منها واحدة، وهي: أولا أن الإعلان عن الأدوية والترويج لاستخدامها ممنوع نظاما وعرفا أخلاقيا عالميا وثانيا أن الأولوية في تحقيق الأمن الدوائي وطنيا هو أن نصنع الأدوية الأساسية المنقذة للحياة مثل أدوية القلب والضغط والسكر والكبد والغدد والأورام وليس مقويات الباه، والثالثة أن أسلوب الإعلان ومشاهده وإيحاءاته غير لائقة، وكتبت مباشرة للجهات ذات العلاقة آنذاك بتراخيص الأدوية والاعلانات والرقابة عليها، ولكن دون استجابة تذكر أو وقف للإعلان، فكتبت لفضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد وكان رئيسا لمجلس الشورى وشرفت بمقابلته وشرحت له أبعاد الأمر وخطورته فتجاوب مشكورا وبسرعة فتم وقف الإعلان. مجمل القول: إن أي فترة من الزمن وأي ظروف تصاحبها لا يعدم فيها المواطن الحيلة والقدرة على المساهمة في الإصلاح ومحاربة الفساد في وطن قيادته تفتح القلب قبل الباب لكل مواطن صالح أو حتى مقيم محب، وفي هذا العصر الزاهر فإن وسائل التواصل أصبحت أسهل وأسرع والأنظمة أكثر تحديثا ودقة وشمولية وبقي أن يقوم كل مواطن بدوره في دفع عجلة مكافحة الفساد والمخدرات وكل ما هو ضار.