رسمت قمة مجموعة العشرين G20، التي اختتمت أعمالها في العاصمة الهندية يوم الأحد الماضي، ملامح النظام الكوني الجديد، الآخذ في التشكل، وأشّارت إلى بروز قوة جديدة في المشهد الجيو- سياسي العالمي. في القمة الأخيرة، كان واضحًا عدم الانسجام داخل هذه المجموعة التي تمثل الثقل الاقتصادي الأكبر في العالم، وعلى الرغم من عدم التوافق، إلا أن المجموعة ظلت متماسكة، ويعود الفضل في ذلك، جزئيًا، إلى الرئاسة الهندية التي أثبتت جدارتها الدبلوماسية للحفاظ على التوازن وعدم تحويل القمة إلى ساحة نزاع سياسي. لكن الهند، ما كانت لتنجح في هذا المسعى لولا ارتكازها على الدعم القوي من الدول الأعضاء في مجموعة بريكس، وعلى رأسهم المملكة والبرازيلوالصينوروسيا وجنوب إفريقيا، التي نجحت الهند في ضمها إلى مجموعة العشرين، هي إذن قوة الدول النامية في وجه الدول الصناعية، ومنها مجموعة السبع الكبار. صحيح أن الدول الصناعية قوة عسكرية ومالية هائلة، لكنها لم تعد تتحكم بمصير هذا العالم، ولهذا فقد تراجعت خطوة إلى الوراء عندما وافقت على مضض، على النص التوافقي المتعلق بالحرب في أوكرانيا كما ورد في البيان الختامي، الذي تطلب "أكثر من 200 ساعة من المفاوضات المتواصلة، و300 اجتماع ثنائي و15 مشروعًا". نص البيان تجنب إدانة روسيا، لكنه أشار إلى المعاناة الإنسانية التي تسببها الحرب، ودعا جميع الدول إلى الامتناع عن استخدام القوة للاستيلاء على الأراضي. وبموافقتها على هذا النص، ربما تكون الدول الغربية قد توقفت عند سياسة الكيل بمكيالين، عندما يتعلق الأمر بالاحتلالات وانتهاك حقوق الإنسان، إذ لا يمكنها أن تدين "الغزو" الروسي لأوكرانيا ولا تدين الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، أوكرانيا التي انتقدت هذا النص "رأت في غياب أي إشارة إلى "العدوان" الروسي دلالة على أن داعميها الغربيين يفقدون حجتهم مع "الجنوب العالمي" حول كيفية توصيف الحرب". لكن الحدث الأبرز في القمة كان إعلان سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، عن توقيع مذكرة تفاهم لبناء خط سكك حديدية، وممر شحن يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، في مشروع يهدف لتعزيز النمو الاقتصادي والتعاون السياسي، وقد لقي الإعلان ترحيبًا من الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين. وهذا المشروع جزء من مبادرة أطلق عليها الشراكة من أجل الاستثمار في البنية التحتية العالمية، حيث سيساعد الممر في تعزيز التجارة ونقل موارد الطاقة وتطوير الاتصال الرقمي. الحديث عن هذا المشروع بدأ منذ مدة طويلة، لكن العمل على تصوره وإعداده تسارع في الأشهر الأخيرة. وهذه الفكرة قديمة جديدة، فقد طرحت مشاريع كثيرة، لربط دول الخليج العربي وتحقيق تكاملها الاقتصادي، ثم تبلورت الفكرة من منظور رؤية المملكة 2030، فقد أعلن وكيل وزارة النقل في فبراير 2022 عن خطة لربط عشر مدن سعودية بمدينة البصرةالعراقية، بينما كشف وزير التجارة ماجد القصبي عن خطة لبناء خط حديدي من البحر الأحمر حتى العراق، الذي أعلن بدوره عن بناء خط حديدي جديد يربط بغداد بمدينة البصرة بالجنوب، وخط آخر يربط البصرة بإيران، ويتوجه العراق لبناء مشروع استراتيجي يربط مدينة البصرة جنوبا بالكويت، وشمالاً بأوروبا مرورًا بتركيا عبر خط للسكك الحديدية والطرق المعبدة. وربما يدخل هذا المشروع ضمن الممر الذي أعلن عنه سمو ولي العهد الذي قال "نحن نعمل على تحقيق الممر الاقتصادي على أرض الواقع، بما يحقق المصالح المشتركة لدولنا من خلال تعزيز الترابط الاقتصادي، وبما ينعكس إيجابًا على علاقاتنا مع شركائنا في الدول الأخرى والاقتصاد العالمي بصورة عامة، ويسهم هذا المشروع في تطوير وتأهيل البنية التحتية لتشمل السكك الحديدية وربط الموانىء، وزيادة مرور السلع والخدمات وتعزيز التبادل التجاري بين الأطراف المعنية، ومد خطوط الأنابيب وتخزين واستيراد الكهرباء والهيدروجين، لتعزيز أمن الطاقة العالمي بالإضافة إلى كابلات نقل البيانات". وقد استحوذ هذا الموضوع على اهتمام الخبراء الذين قالوا إن هذا المشروع ليس حلمًا مستحيلاً، حيث يحظى بدعم من الولاياتالمتحدةوالهند، وسوف يكون جاذبًا لذوي المصلحة، الذين تزداد ثقتهم بالمملكة يومًا بعد يوم كمصدر موثوق للطاقة، بعدما ارتفع مؤشر تصنيفها الائتماني ومعدل نموها وتنوعت سلة استثماراتها الخارجية، وزادت استثمارات شركاتها العابرة للقارات، وبعدما أعلن وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان أن المملكة سوف تحتل قريبًا المرتبة 15 ضمن اقتصاديات مجموعة العشرين. وعلى الرغم من بعض التحليلات بأن هذا المشروع سوف يؤثر سلبًا على قناة السويس والمشروع الصيني "الحزام والطريق"، إلا أن القائمين عليه يحرصون على أن يكون مكملاً لهذين الممرين وليس بديلاً لهما، فالمملكة تتنافس على الساحة الدولية ولكنها لا تلغي الآخر، خاصة إذا كان أخًا مثل مصر، أو صديقًا مثل الصين. كان واضحًا من كلمة سموه أمام القمة، أن هدف المشروع الأساسي هو "تعزيز الترابط الاقتصادي" وبما ينعكس إيجابًا على علاقاتنا مع شركائنا في الدول الأخرى والاقتصاد العالمي بصورة عامة. في أثناء انعقاد قمة العشرين كانت الأنظار تتابع حضور سمو ولي العهد ولقاءاته المنتقاة، مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي قال إن بلاده مستعدة للقيام بكل ما يلزم من أجل تعزيز العلاقات مع المملكة في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية، وإنها "ستعمل مع السعودية والإمارات والعراق بشأن ممر السكك الحديدية والموانئ". لقاءات سموه، شملت أيضًا رئيسة وزراء بنغلاديش، الشيخة حسينة واجد، ورئيس الأرجنتين ألبرتو فرنانديز، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، ورئيس البرازيل لويس إيناسيو لولا دا سيلفا الذي تستضيف بلاده قمة المجموعة العام المقبل. اللقاءات شملت أيضًا رئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا. وكان وزير الخارجية الياباني يوشيماسا هاياشي قد وقع مع وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان مذكرة تفاهم للحوار الاستراتيجي بين البلدين. وذكرت بعض التقارير الصحفية أن المملكة تنوي المشاركة في تمويل البرنامج البريطاني لصناعة طائرة مقاتلة من الجيل السادس الذي تشارك فيه أيضًا كل من ألمانيا وإيطاليا. بعد اختتام قمة مجموعة العشرين، قام سمو ولي العهد بزيارة دولة للهند استقبله فيها رئيس الوزراء ورئيسة الهند دروبادي مورمو. وهذه ثاني زيارة رسمية لسموه حيث زار الهند في عام 2019 واستقبله يومها رئيس الوزراء في المطار وكسر البروتوكول المرعي في زيارات زعماء الدول تقديرًا منه لسموه ولمكانة المملكة الإقليمية والعالمية. في هذه الزيارة، وخلال انعقاد القمة، التقى رئيس الوزراء الهندي بسموه سبع مرات وحرص على احتضانه وعناقه. ووأعلن فيها عن تأسيس مجلس شراكة استراتيجي لفتح مرحلة جديدة من التعاون بين دولتين مهمتين في مجموعة العشرين ما يعكس تطابق الرؤى في المجالات التجارية والاقتصادية، ووقعت 53 اتفاقية في منتدى الاستثمار السعودي - الهندي. وهذا التعاون هو ثمرة جهود متواصلة من قيادات البلدين منذ أكثر من سبعة عقود وتعمق هذا التعاون من خلال التبادل التجاري حتى أصبحت الهند رابع شريك تجاري للمملكة، كما تعمّق من خلال التواصل الإنساني وتبادل الزيارات ووجود جالية هندية تمثل 7 % من سكان المملكة. ويمثل البلدان مصدرًا مهمًا لضمان رفاه واستقرار العالم، من خلال سلسلة إمداد الطاقة من المملكة وسلسلة إمداد الغذاء من الهند. ومن شأن هذه العلاقات المتنامية في شتى المجالات، حتى الأمني والعسكري منها، أن تخفف من حدة النزاعات في المنطقة والعالم. كما أن سياسة الانفتاح والاعتدال في المملكة أصبحت نموذجًا للسلم المجتمعي في العالم وقد أراد سموه أن ينقل هذه الروح إلى المجتمع الهندي المتعدد اللغات والمذاهب عمومًا وإلى بعض التيارات المتعصبة خصوصًا التي لا تتحلى بروح التسامح تجاه العرقيات والأديان الأخرى. هذه الزيارة كانت استثنائية لأنها جاءت في وقت، كما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، و"الانقسامات تتزايد والتوترات تشتعل والثقة تتآكل، وكلها معًا تثير شبح التشرذم والمواجهة في نهاية المطاف". في عام 1996، نشر صموئيل هنتنغتون كتاب صدام الحضارات، ناقش فيه إعادة تشكيل النظام العالمي وأكّد على فكرة أن الاختلافات الثقافية، ستكون المحرك الرئيس للنزاعات بين الدول في فترة ما بعد الحرب الباردة. وبعدما تركت الدول الاستعمارية قارة إفريقيا شكلًا، قامت بتغيير قياسات نظام السكك الحديدية في دول القارة لمنع التواصل بينها. لكن سمو ولي العهد، من خلال توسيع علاقات المملكة مع مختلف دول العالم الصديقة، يثبت بأن الحضارات يمكن أن تتعايش ولا تتصادم ويمكن أن نبني الجسور للتواصل والتفاهم وبناء الثقة بدلاً من هدمها.