شهد تاريخ البشرية منذ فجر التاريخ حضارات كثيرة، لكنها تمايزت فيما بينها بمقدار الإنجازات التي حققتها لشعبها وللإنسانية، وكذلك بمقدار الخراب والدمار الذي سببته لنفسها ولغيرها، والشواهد على ذلك كثيرة منذ غزوات المغول والنازية والاستعمار الحديث وصولاً إلى الحروب العسكرية والتجارية الدائرة حاليًا بين الدول الكبرى للهيمنة على العالم تحت مبررات وذرائع شتى. ومثلما نهضت هذه الحضارات وانتهت، كذلك برز قادة تركوا بصماتهم على مسيرة التاريخ لأنهم كانوا قادة حقيقيين مسلحين بمنظومة قيم وبإيمان لا يتزعزع في الدفاع عن حق أمتهم في البقاء وعيش حياة كريمة خالية من الخوف والتهديد والإقصاء ومحاولات طمس هويتها ودورها ونهب خيراتها. كان الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود من بين هؤلاء القادة التاريخيين الذين وضعوا لبنات الدولة الحديثة وبنوا تحالفات مع الدول الكبرى في العالم على أسس التعاون المشترك والتعايش السلمي بين الدول. وجاء من بعده قادة أكملوا المسيرة إلى أن دخلت المملكة الألفية الثالثة في التاريخ المعاصر بعدما اجتازت كثيرًا من التحديات. وقد بنت المملكة علاقات مع دول العالم اقتضتها عوامل جيو-سياسية وأيديولوجية واقتصادية كثيرة فرضتها مراحل القرنين الماضيين. لكن العالم تغيّر مع دخولنا الألفية الثالثة وما شهدته بداياتها ما سموه صراع الحضارات والعولمة وطغيان التكنولوجيا والتنافس المرير بين الدول على مصادر الطاقة والموارد الطبيعية الأخرى. وقد حمل هذا التنافس معه سباق تسلح غير مسبوق انتهى بحربين عالميتين أديتا إلى قتل ملايين البشر واستخدام أول قنبلة نووية في التاريخ. عند انتهاء الحرب العالمية الثانية ودخول الولاياتالمتحدة بجيوشها إلى أوروبا، قيل يومها إنها ستكون آخر الحروب، لكن هذا القول كان من كذبات التاريخ الكبيرة لأن الحروب لم تتوقف حتى وإن اتخذت أسماء شتى مثل الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي - سابقا - أو حلف وارسو وحلف النيتو. بعد تفكك الاتحاد السوفيتي تمنى كثيرون أن يعيش العالم فترة سلام، لكن ما نراه اليوم في أوكرانيا وعمليات التجييش والحشود والمناورات العسكرية بمختلف أشكالها واحتمال الصدام النووي الذي قد ينهي البشرية جعل العالم يعيش مرة أخرى هاجس الخوف والموت بعدما عاش هذا الهاجس أيام وباء الكورونا الذي لم يعرف حتى الآن المتسبب في انتشاره. ولأننا جزء من هذا العالم فإننا نتأثر بما يجري فيه سلبًا أو إيجابًا، وبخاصة فيما يتعلق بالتجاذبات وبناء التحالفات والصداقات والشراكات وغيرها من العلاقات بين الدول. في هذه الأجواء جاء سمو الأمير محمد بن سلمان وليًا للعهد وطرح رؤيته - المملكة 2030 - وأحدث، برأي المحللين والمراقبين المنصفين، ثورة وتحولاً على مختلف الصعد المحلية. لم يكن هذا التغيير الجذري استجابة لضغوط خارجية وإنما استجابة لمتطلبات روح العصر التي تستدعي تغييرا في كثير من المفاهيم ونقلة نوعية في علاقات جديدة مع دول العالم تضع المصلحة الوطنية في الأولوية على خلاف العلاقات التقليدية القديمة، لقد كانت مطالبهم منح المرأة الحق في قيادة السيارة، فتخطى توقعاتهم وأرسل المرأة السعودية إلى الفضاء! لكن ما فاجأ صنّاع القرار في العالم هو أن سمو ولي العهد ذهب إلى أبعد مما يتوقعون، فبينما كانوا يقضون وقتهم في تحليل شخصيته ونشر الشائعات ومحاولة تعطيل مسيرته وتوقع فشله خرج عليهم باستراتيجية غير معهودة فاجأتهم. وتمثلت هذه الاستراتيجية في القرارات السيادية فيما يتعلق بالحرب والسلام والاقتصاد والنفط والاستثمار وبناء التحالفات وترتيب البيت العربي وإعادة تطبيع العلاقات مع إيران. عندما اختير سموه وليًا للعهد في عام 2017، قالوا إنه شاب قليل الخبرة في العمل السياسي وتناسوا أنه خريج مدرسة والده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي أرسى أسس النزاهة والتلاحم والاستقرار وحققت المملكة في عهدة قفزات تنموية عززت مكانة المملكة ودورها في العالم. أدت شجاعة سمو ولي العهد في اتخاذ القرارات المصيرية إلى قلق في أوساط الحلفاء القدماء ومنهم الولاياتالمتحدة تحديدًا، وشهدت العلاقات بين البلدين فترات مد وجزر لكنها لم تصل إلى حد القطيعة، لكن يبدو أن بعض الدوائر في الإدارات الأميركية المتعاقبة لم تحسن قراءة التاريخ ولم يدركوا أنهم إذا ما هددوا بإعادة تقييم العلاقات مع المملكة، فإن محمد بن سلمان سيعيد تقييم العلاقات معهم أيضًا، وأنه في الوقت الذي يحرص فيه على استمرار العلاقات الممتدة لثمانية عقود فإنه لا يقبل أن تكون ثابتة من جانب المملكة ومتذبذبة من الطرف الآخر وأسيرة للأهواء الشخصية. ورسالته في هذا واضحة: لا تفريط في الصداقات الحقيقية ولكن لا مساومات على الحقوق والمصالح الوطنية. في مرات كثيرة أطلق مسؤولون أميركيون تصريحات بعيدة عن الدبلوماسية، ومنها تصريحات للرئيس بايدين بجعل المملكة "دولة منبوذة"، إضافة إلى تصريحات أخرى بمعاقبة المملكة لبنائها تحالفات مع الصين وخفض إنتاج النفط في إطار منظمة "أوبك +" للحفاظ على الاستقرار في سوق النفط والحد من تذبذب الأسعار. في اليومين السابقين نشر تقرير ومقال في اثنتين من كبريات الصحف الأميركية يضيئان على شخصية سمو ولي العهد وكيفية التعامل السليم معه. وذكرت الواشنطن بوست أن مسؤولين أميركيين كبارًا زاروا المملكة لترميم الشرخ في العلاقات الذي سببته تصريحات بايدن ونسبت إلى مصادر قولها "إن الضغوطات لا تنفع مع السعوديين"، وأشارت إلى استمرار الخلافات فيما يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل. أما صحيفة "واشنطن تايمز" فنشرت مقالاً للدكتور سهراب سبهاني، الأستاذ في جامعة جورج تاون، بعنوان "على أميركا أن تفهم ما الذي يحفّز محمد بن سلمان". وجاء في المقال: "إن فهم ما يحفز محمد بن سلمان هو نقطة البداية لكيفية تعامل واشنطن مع زعيم سيلعب دورًا مهمًا على المسرح العالمي لسنوات قادمة، فولي العهد يقود مجموعة غير مسبوقة ورائدة من الإصلاحات التي تعمل على تحويل البلد الأكثر أهمية لأمن الطاقة العالمي، إن الشيء الوحيد الذي يحفّز محمد بن سلمان هو حبه واعتزازه بالمملكة العربية السعودية وشعبها، وهذا يفسر سبب إصراره على دفع بلاده إلى مركز قوة اقتصادية بحيث يمكن ضمان ازدهار مواطنيه. هذا الإعجاب يسري في كلا الاتجاهين. سواء تحدث المرء مع السعوديين في حي الخالدية القديم بالرياض أو مع سائقي أوبر السعوديين أو الفنانين السعوديين في فيا الرياض، فإنهم لا يملكون سوى الثناء والحب للملك ولولي العهد، الرسالة واضحة: واشنطن تتعامل مع زعيم شعبي طور علاقة عميقة مع أمته الفتية. أما الدافعية الثانية فهي رغبته الشديدة ليترك إرثًا لبلاده، والعامل المحفز الثالث هو تحويل المملكة إلى قوة تغيير إيجابي على المسرح العالمي، والرابعة هي تمكين المرأة والخامسة هي الابتكار، فهو صاحب رؤية مستقبلية، ولن تجد الولاياتالمتحدة شريكًا أفضل منه لمعالجة المشكلات العالمية." هذا بعض ما يقوله الآخرون عنه، ونحن عندما نشيد بمواقف سمو ولي العهد وإنجازاته ومواقفه المبدئية الثابتة، فإن شهادتنا فيه لا تفيه حقه، لأنه يصل الليل بالنهار ويعمل بإصرار وصمت ويقاتل كجندي مجهول من أجلنا ومن أجل أن يظل هذا الوطن عزيزًا مثلما هو.