نشهد مؤخراً عروضاً فنية مدعومة من قبل مسوقين لسلع تجارية، تحقق أهدافاً حضارية مُركَّبة، ومن ذلك ما تم منذ دورتين في بينالي فينيسيا، حين استطاع الفنان الإيطالي (فابريتسير بليسي) أن يقدم عملاً شمولياً على المستوى التقني الإليكتروني في ساحة (سان ماركو)، حيث غطى النوافذ الغربية الضخمة للساحات بشاشات عرض تتناوب فيها صور الماء والنار، إمكانيات تقنية ضخمة وُضعت تحت تصرف الفنان لإنتاج عمله، وجاءت النتيجة المبهرة كخير مروج لتقنية المموِّل وللفنان على السواء. تمويل هذا العمل الضخم من قبل الشركات المنتجة لهذه التقنيات هو التخليص للتنافس التجاري على تبني الفن كعمل ثقافي راق من جهة، وكوسيط بالغ السطوة كمُحفز للأعمال الإنسانية الإيجابية وكمروج للسلعة التجارية من جهة أخرى، حيث يتم في هذه العملية المعقدة استثمار خبرة الفنان وتميزه لنقل عمله خارج أماكن العرض التقليدية، وخارج دوره كوجود جمالي حيوي بصرياً، ليصير أداة فاعلة لخلق مجتمع أفضل، من خلال جمع موارد لعمل مجتمعي بنّاء وفي نفس الوقت تحقيق الدهشة الإلكترونية الجديدة التي على الفن أن يحملها باعتبارها النمط المعيشي المستقبلي. وبذا يتحقق كسر عزلة الفن عن مجتمعه حين يصير الفن وسيطاً لتحسين أحوال هذا المجتمع والترويج لمشاريعه التقنية من جهة والخيرية والحضارية من جهة أخرى. في هذا الإطار أيضاً جاءت سلسلة المزادات الفنية الخيرية التي نظمت في دول الخليج كالإمارات والكويت والسعودية، وذلك بالتعاون بين HP الشرق الأوسط للطباعة، ومجلة ميكس ميديا كانفاس، ونوكيا، وكريستيز الشرق الأوسط للمزادات العالمية، حاول هذا المشروع الخلاّق تحقيق أهداف ثلاثة، أولها: جمع مبالغ لرعاية الجمعيات الخيرية، والمؤسسات التي تُعنى بالبحث في الأمراض المسببة للعمى، ورفع العناية الصحية بالأطفال بالمستشفيات، والتوعية بأهمية خدمة المجتمع عموماً من قبل الأفراد والمؤسسات. وثانيهما: ترويج سلعة تجارية مثل هاتف نوكيا، وثالثهما وقبل كل شيء: اتخاذ الفن وسيلة للترويج، من خلال تشجيع أفراد وفنانين محترفين على تصوير وإنتاج صور باستعمال تقنية نوكيا الجديدة للتصوير في هاتفها N09 المستخدم لتقنية عدسات كارل زس زوم، وكاميرتيّ ميجابيكسيل، لالتقاط الصور الفوتوغرافية الفنية التي تمت طباعتها على ورق مقاس A4 بواسطة HP طابعة ديزاين جيت 90، وتم التنظيم لعرض تلك الصور الفوتوغرافية في سلسلة معارض وبيعها في مزادات تجولت بين الإمارات والكويت، واستقرت ليلة 7 ديسمبر في مدينة جدة، حيث تم افتتاح المعرض بفندق هيلتون تحت رعاية الأميرة جواهر بنت ماجد بن عبدالعزيز، السبَّاقة لرعاية كل ما هو أصيل في الفن والفكر، والتي جاءت رعايتها لهذا المشروع الخيري الفني التقني ضمن توجهها للارتقاء بالفن وإتاحته لمتلقيه والتوثيق له، وهو تَوّجُّه سَبَقَ دعاوى الإصلاح في عالمنا العربي، بتأسيسها لمؤسسة المنصورية للثقافة والإبداع عام 1999، والتي قطعت منذ ذلك التاريخ مشواراً طويلاً في رعاية الفن المتميز محلياً وعربياً. الأمر الذي أكدته في كلمة افتتاحها للمعرض بقولها: (ترتقي الشعوب وتصل لحقيقة أن الفنون هي القادرة على التعبير عن أرواح الشعوب والارتقاء بها، لذا فغالباً ما يتحول الفن ليدخل في صلب الحياة كما حدث في هذا المشروع، ورغبة في الاستفادة من الحيوية التي توفرها النظريات والمخترعات الحديثة في إحداث التغيرات الاجتماعية، فنحن نشهد في عالمنا اليوم التأثير العميق للتقنية على الفنون، وبالذات البصرية، حيث تتطوع التقنية لخدمة الفن وتوسيع إمكانياته ودائرة تأثيره، واختصار مراحل إنتاجه، ويستفيد الفن من كل تلك الجهود مروجاً لتلك التقنية، فيتحقق الهدف بنفع مزدوج لكليهما. ومشروعنا الليلة لا يُحقق هذا النفع المزدوج وحسب، وإنما يذهب لتحقيق هدف ثالث وأبعد، حيث يوظف كلا من الفن والتقنية لإثراء ودفع مشاريع الخدمة الاجتماعية والعمل الخيري. ضم المعرض مائة صورة لعشرة مشاركين، لكل مشارك عشر صور معروضة، تم طرح ثلاث لكل مشارك في المزاد المقام. قبل المعرض أتيحت لي فرصة محاورة هيفاء بنت منصور بن بندر بن عبدالعزيز بصفتها أول من حدثني عن هذا المشروع، شابة حاملة لدرجة الماجستير في الفن الإسلامي من جامعة ساوس بلندن، وعضو الهيئة الاستشارية بالمتحف الوطني بالرياض، واخصائية تراث وآثار، وتُشارك كغيرها من الفنانين الفوتوغرافيين في هذا المزاد بعشر صور فوتوغرافية، منها صور بعنوان شرفات معلقة، وذهب مع الريح، القلب السعودي، وتمضي الحياة في مقهى الشجرة. قلتُ لها: تعلمين لقد عدت للكتابة في الجريدة لأن الدهشة في هذا العالم لا تنتهي، فكَّرتُ في مشاركة الآخر فيما يتكشف لنا منه مهما كان صغيراً، حدثيني عن اكتشافاتك مع الكاميرا. تقول هيفاء: «مهندس هذا المشروع هو السيد علي الخضراء، رئيس تحرير مجلة كانفاس، التي تُعنى بالفن، وهو صاحب أفكار ثورية عن كيفية توظيف الفن لخدمة المجتمع، كان من مشاريعه تنظيم مزادات يرجع ريعها للجمعيات الخيرية المهملة، فلقد أنفقت نوكيا على هذا المشروع حتى الآن مئة وخمسين ألف دولار، بينما لم يتجاوز الدخل من مزادي الإمارات والكويت 72 ألف دولار، وكان من الممكن أن تقدم الشركة ذاك المبلغ مباشرة للخدمة الاجتماعية، ومع ذلك فهم يعتمدون على مزاد جدة لتحقيق توقعاتهم. لذا فحين اتصلوا بي خَطَرَ لي أنهم يريدون مني اقتراح أسماء محترفين من المصورين والمصورات بالمملكة للمشاركة في هذا المشروع الضخم، فقد كنت أعلم أنهم قد استقطبوا عشرين فناناً من أهم المصورين في دولة الإمارات والكويت لمشروعهم هناك، كما استقطبوا من المملكة مصورة بأهمية ريم الفيصل، ومديحة عجروش. لكنهم فاجأوني بعرض أن أشارك أنا بالتقاط صورة باستعمال نوكيا للمشاركة بها ضمن المعرض الذي سينظمونه للتعبير عن روح المملكة في مئة صورة من خلال عيون مصوريها العشرة المختارين. شرحوا لي أن الفكرة تعتمد على إشراك أفراد عاديين بالإضافة للمحترفين، بالطبع ممن يملكون عيناً فنية، ليعطي المعرض فكرة عن أن بوسع الجميع وبواسطة التقنية المتطورة إنتاج لقطات ذات قيمة فنية. أليس جميلاً أنهم في الإمارات قد وظفوا ريع الفن البصري المُنْتَج لتمويل مشاريع لخدمة المحرومين من نعمة البصر؟». وتضيف هيفاء: «كان هدف كانفاس من تنفيذ هذا المشروع بالمملكة القيام بتمويل جمعيات مثل جمعية أيتام الطائف، وهي من الجمعيات التي لا تحظى باهتمام كبير ولا تنوبها التبرعات السخية مثلما هو الحال مع الجمعيات الخيرية في مدينتي جدة ومكة، وفي الحقيقة هذا ما شجعني على المشاركة، لم أشأ أن أتقاعس عن عمل خيري. فكرت أن بوسعي المحاولة لأرى ما أخلص إليه، وبالفعل لا تعرفين أين قادني هذا المشروع سواءً تقنياً أو على المستوى الإنساني والوعي المجتمعي. في البداية خطر لي أن أقوم بالتصوير في الأحياء بوسطة مدينة جدة وخصوصاً جدة القديمة، ولا يمكنك تخيُّل الصدمة التي تلقيتها، فاجأتني أحياء في بؤس تام، ولو رأيت الصور التي التقطتها لصعب عليك إدراك أنها ملتقطة بمدينة لها مكانتها الحيوية كمدينة جدة! صُور تُوحي بأنها قد التقطت من قلب افريقيا والمجاعات. شيء لا يُصدق، ورغم أنني قد التقطت الكثير من الصور في تلك الأحياء، وبمضمون فني جميل حسب علمي، وجميعها أحبها، إلا أنني ترددت في استخدامها، لم أتخيل أن تنجح في خدمة الغرض التسويقي وتأمين دخل خيري لذلك المعرض، إذ لا يُعقل أن رواد المزاد سيحبون اقتناء كل ذاك البؤس. لذا تحولت من وسط جدة لتصوير واقع أقل مأساوية، ولجأت لكورنيش جدة. وهناك عشت تجربة فريدة، أذكر أنني قد استيقظت يومها مبكرة، وحرصتُ أن أكون على الكورنيش في تمام الساعة السادسة، لمحاولة التقاط أول ساعة ذلك النهار وإطلالة شمسه، والاستفادة من الإضاءة المميزة على البحر حينها. اصطحبت معي مرافقاً لكي يكون متواجداً للطوارئ، لم أشأ لفت الانتباه، وبالفعل كنت أتحرك بحرية في المنطقة على الكورنيش المواجهة للديوان الملكي، ولقد قضيت ما يقارب الساعة والنصف التقط الصور، فجأة ظهر ذلك الجندي، قال: «ممنوع التصوير هنا» ضحكتُ للمفارقة، قلت: «أمضيت ساعة ونصفاً في التصوير، الآن تجيء لتقول ممنوع!!» «كنت أراقبك، والضابط يقول ممنوع التصوير ولا بد أن تعطينا الكاميرا سنصادر الفيلم». «لكن مجلس الوزراء أصدر قراراً جديداً بالسماح بالتصوير في كافة المناطق ما لم تكن هناك لوحة بالمنع». «بوسعك إرسال مندوب من قبلك لاستلام الكاميرا من مركز الشرطة»... كان مصمماً لا يحيد، هنا تدخل مرافقي، ابتعد به قليلاً، وقفا يتحدثان على انفراد لما يقارب الساعة، أكملتُ خلالها التصوير، ورجع مُرافقي سعيداً يقول: «ما يخالف، حَلينا الأمر؟» «كيف؟» «طلع الرجل من الجماعة ومشي الحال». «أي جماعة؟؟؟» «من نفس القبيلة، مثلي». وبالفعل بعد هذا النسب لم نواجه مشكلة. تملكني الفضول سألت هيفاء: «حدثيني عن تجربة وسط جدةوجدة القديمة». «لا أحد يتكلم العربية في تلك الأحياء، عندما سمعوني أتكلم العربية بدأوا بالفرار من أمامي... تجدين بشراً من كل اللغات وفي كل الأزياء، تظنين أنك بوسط أفريقيا، حقاً، ما لا نعرفه أن جدة تتحول لأفريقيا صغرى بقلب البلاد». قلت: «وهذا ما واجهني في أحياء كالمكرونة، بشر يتزاوجون ويتكاثرون بلا أوراق ولا يتبعون فعلياً لأي هوية أو دولة، وتتكاثر أعدادهم بلا هوادة». قالت: «عندما كنت أتحدث باللغة العربية في الأحياء ذات الأزقة اللانهائية اعتقدوا أنني أجنبية، وفي أحد محلات صنع أنابيب الأرجيلات، حيث يعمل القادمون من حضرموت، سألني عجوزٌ حضرمي: (تريدين تصويري؟ أأنت أجنبية؟ قبل خمسين سنة زارتني سيدة أجنبية وأرادت أيضاً التقاط صورة لي، ولقد أخذت عنواني وبعثتها لي أنظري ها هي). وأشار إلى صورة مكبرة معلقة وراء جدار الحانوت، صورة بعمر خمسين سنة لشاب لم تبق من فتوته لمحة في العجوز الذي يحدثني. وتساءلت كيف ستبدو صورة نوكيا بعد خمسين سنة من الآن، وهل ستكون هناك معلقة على جدار هذا الحانوت خلف هذا الرأس الشائب؟ الطريف أنه، ولا واحدة من النساء هناك كانت ترتدي العباءة، أنا كنت الوحيدة التي أتحرك في عباءة. الجميع يرتدون أزياء أفريقية أو هندية، لا شيء يُذكرك بأنك في جدة إلا صور الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وحينها كان الملك فهد - يرحمه الله - قد توفي لتوه وتنصب الملك عبدالله، وكانت صورة الملك الجديد معلَّقة في أماكن متفرقة، هذه الصورة هي الشيء الوحيد الذي يُذكرك بالمكان والزمان. هناك مشاهد لمبان مهدمة، وكائنات معدمة أقرب للحيوانات، بملامح زائغة وهلاهيل ثياب، وخرابات وعشش مسكونة بنمل البشر ذاك». قلتُ لهيفاء: إذاً لقد قاد هذا المشروع لرؤية المدينة بهذه العين النضرة، التي ترى كمن يرى لأول مرة، ولا تفوتها ملامح اعتاد البعض على اعتبارها واقعاً مُسلَّماً به. قالت بحماسة: «مشروع التصوير هذا علَّمني الكثير، على الأقل عن المدينة التي كبرت فيها، بالإضافة إلى تحديات التقنية، إذ ظننت للوهلة الأولى أن التصوير بكاميرا الهاتف أمر عفوي وسهل، لكن اكتشفت بالتجربة أنها عملية معقدة، إذ من الصعب الرؤية والتحكم في الكادر من خلال تلك العدسة، ثم الحُكم والفرز، وكان من الصعب اختيار ثلاثين من ثلاثمائة صورة التقطتها، أيضاً عليك إتقان عملية إحداث تأثيرات وتنقيح الصورة باستعمال الإمكانيات التقنية، تأثير الأشعة السينية مثلاً - أو تبديل الألوان أو إعطاء تأثيرات كرتونية، وهي تقنية من المهم أن يختبرها الإنسان ويوظفها في فنه. مجلة كانفاس الآن، ونوكيا وبعدها ما لا حصر له من الشركات الضخمة، ما الذي يمكن أن تقدمه لإخراج مثل هذه الأحياء من عدميتها، ما الذي يمكن أن تضعه بالتعاون مع المسؤولين من حلول لمشكلة اللاهوية المتضخمة هناك؟ ما المشاريع التي يمكن أن تقترحها الغرف التجارية والبلديات على أعضائها، وفي خططها المستقبلية لإحياء الوجه الآخر لمدنها؟ وهي الدعوة التي جاءت في خطاب الأميرة جواهر: (نتوسم في كل فرد منا رعاية الهدف الحضاري المزدوج الذي قامت عليه مناسبتنا، لأن الفن والخير قطبان يتوجهان لروح الأمة ولحيويتها، فيضمن الفن الاستمرارية الحضارية للأمة، بينما يصون العمل الخيري كرامة إنسانها، وكلاهما واجب وطني).