كان يأتي كل حين مُدججاً بالبسمات.. يأتي على صهوات جياد مطهمة بالفرح.. يلتقطه الناس في كل مكان.. حتى في غبار تلك الأزقة الضيقة يعثرون عليه معتمراً أبهى الحلل.. يتربص العابرين ليدغدغ في أحلامهم الطاهرة أعذب المشاعر. أبداً ما تاه عنا، وما تُهنا عنه. كنا نلتقي معه في تلك المواعيد التي يضربها الهلال للبزوغ، فقط حين يريد أن يُشاغبنا في مواعيده أو يصيب استعداداتنا له.. يأتي قبل أو بعد موعده بيوم واحد، وكأنما يريد أن يضفي على حضوره شيئاً من البغتة اللذيذة!. هل هي الطفولة.. تلك التي كانت تمنحه كل تلك الحفاوة؟، هل كان لتلك الأسمال التي لا يُجدّدها إلا هو دور في ذلك الحضور الطاغي الذي فتر حدّ الوسن. قالوا الكثير في سياق البحث عن علة ذلك العيد الذي استعصى.. بعضهم قال: لا سبيل للبحث عن العيد بين برك الدماء النازفة، وقال آخرون: لا عيد في زمن تخشبت فيه كل القيم.. لتبقى الساحة فارغة إلا من القيمة!!. وردّد فريق آخر بيت شعر للمتنبي.. ينعى فيه العيد.. تماماً كمن يُريد أن يُخلي مسؤوليته عن جريمة اغتيال في قسم للشرطة!. لكن لا أحد قال ما يجب أن يُقال في العيد الذي استعصى.. لم يقل أحدٌ أنه خُطف على يد ثلة هي ذاتها العبوس حينما لم تر في هذه الحياة سوى التجهّم والقتامة.. حينما لم ترها إلا عابسة كالحة كوجه ذئب جائع في صحراء كتم أنفاسها زمهرير الشتاء!. خطفته وأخفته خلف ملامحها الصارمة، كمادة ممنوعة، وارتهنته طويلاً.. ولم تُخرجه للناس إلا نادراً، وحين فعلت أخرجته بزي تنكري فلم يتعرّف عليه أحد!!. لم يشأ أحدٌ أن يقول ذلك.. لسبب ساذج وهو أنهم ما اعتادوا أن يُعطوه، وإنما اعتادوا أن يأخذوا منه.. لذلك ما كانوا له أوفياء في محنة الغياب تلك.. ربما توهّموا أنه يختفي بمحض إرادته.. بعضهم ظنّ وهماً أنه احتجب احتجاجاً.. حينما ضبط بعض الثياب الجديدة تُباع خارج سوقه!. لكنهم حينما قرروا أن يُخرجوه من معتقله في كهوف الأسر السوداء.. لم يتنبهوا أنه شبّ عن الطوق.. بل كبُر كثيراً وتداعت مفاصله.. فخرج حينها عصيّاً على عواطفه التي كانت.. متلفعاً بجلباب أغطشه الظلام. حاولوا أن يستضحكوه بتلك الأزهازيج التي كانت عادة تستنفر فيه كل مكامن الابتهاج.. فكشر لهم عن صف غير منتظم من أسنان صفراء.. أصابتها عتمة الرقاد الطويل بالتسوّس!. ذكروه بأغانيه في غدائر الفتيات، وأكفهن البضة الصغيرة التي كانت تطوي أوائل ليله على أجمل النقش.. فأشاح بوجهه عنهم!. ذكروه بلحى أولئك الشيوخ الطيبين التي يحتفي بها الحناء ليمنحها زهوة اللون المبجّل بحرارة الاحتفال ما بين حمرة الجمر واصفرار اللهب!!.. فأعرض وأشار بنصف شفته السفلى إلى حلاق مهاجر يزوّر بالدهان الأسود سنّ كهل تغضّن وجهه.. لكنه ما عاد ينتمي إلى جيله.. في زمن طال فيه التزوير ما لم يكن قابلاً للطول. إنني أراه - مثلكم - هنا وههنا وهناك.. لكنه لم يعد هو.. لقد فقد براءته وإن لم يفقد اسمه وموعده.. منذ أن اكتفى بمكاييل من القبل الباهتة يُلصقها الناس على خدّيه بلا حساب.. بوجوه يملؤها الضجر والنعاس إثر سهر ليل طويل.. تماماً كما يُلصقون قطعة من اللبان بعد المضغ على لوح من الخشب.. بخليط من الحياد واللامبالاة!!، ما دعا إلى أن تتسبب تلك القبل الفاترة كيميائياً إلى تصادم أنوفهم أحياناً مع بعضها البعض.. خاصة حينما يريدون إحماءها على صفحة الوجه الأخرى!!، ليكتشفوا فجأة كم كبُرت تلك الأنوف على العيد.. العيد الذي ينبغي!!. كل عام وأنتم بخير. [email protected]