عجيب أمر بعض المثقفين، الذين قادوا مسيرتنا الثقافية ردحا من الزمن.. يلبسون عباءة الفيلسوف، ويتقدمون المحافل والمنتديات، ويعظوننا بالحداثة التغيير، نبذ المألوف، ومحاربة الموروث.. كل موروث عدا الموروث السياسي! أدونيس كاتب أشعل ثورات ثقافية في العالم العربي، ومجّده الكثير من مثقفينا ردحا من الزمن، حتى بلغ بالبعض مرحلة الأيدلوجيا ورفع شعار: من لم يقرأ الثابت والمتحول فليس بمثقف! هذا الكتاب الموغل في التشكيك بالكثير من الثوابت التاريخية والدينية.. كان «انجيل» فيلق من المثقفين في فترة مضت.. وكان القوم يُقسمون الى فسطاطين «مع وضد» أدونيس.. المثقف هو الحارس على أمن المجتمع الفكري والثقافي، والمستأمن على قول الحقيقة، وهناك المثقف المتلفع بثياب الطائفية والمثقف الحر.. وعند امتحان تلك القيم تكشف معادن المثقفين فليس كل ما يلمع ذهبا.. في مطلع الثمانينات الميلادية احترقت ضمائر الأحرار في العالم على ما حدث من تدمير وحشي وقتل جماعي شهدته إحدى مدن الشام، وضجت دوائر حقوق الانسان بوقائع تلك المجازر التي بلغ ضحاياه عشرات الآلاف من الأبرياء.. أقول في تلك الفترة العصيبة التي احترقت فيها مدينة تقع في مرمى سمع وبصر «المثقف الطليعي»؛ كان صاحبنا يستمتع بسحب أنفاس غليونه، وهو ينظّر من برجه العاجي عن «الحداثة»، في انفصال مقيت عن الأدوار الحقيقية للمثقف تجاه قضايا مجتمعه. واليوم.. وبعد ثلاثة شهور من قتل الأطفال وترويع الأهالي وسحل الشيوخ والرقص على الجثث والتمثيل بها، يصحو مثقفنا وينطق علينا وعلى شعبه المكلوم بخطاب هزيل وكلمات مترددة في حديث هلامي، تذكرنا بمقطوعاته الحداثية في الثمانينات الميلادية على طريقة: في ذقني مسمار في حذائي شوكة أتنفس في الجغرافيا انتهى يا سيدي شعبك هناك يذبح.. يقتل.. يسحل.. وأنت من ناديت إلى الثورة على الواقع وتحطيم أوثان المألوف والموروث.. ما لك «ترتد اليوم» وتقدم لنا خطابا بائسا تقليديا موغل بالبرود وتقديس الوثن. والحق يقال أن زلزال التغيير العربي لم يضرب بعض الأنظمة المتكلسة فقط، بل تجاوزها إلى خلخلة قواعد البنية الثقافية التي أوهمنا «مافيا الإعلام» في فترة مضت أن المثقف الحقيقي لا بد أن يمر على كتب أدونيس وتقديم قرابين الولاء له.. إنها النهاية الحتمية للمثقف المزيف الذي طالما صدع رؤوسنا بدور المثقف الطليعي وأهميته في قيادة مجتمع نحو النهضة والتقدم.. وعندما دقت ساعة الحقيقة وجدنا جَمجَمة ولعثمة، كلمات مرتعشة، وحديث مخاتل، وخطاب خشبي.. ليقول نصف الحقيقة، أشبه ما يكون بقتل الحقيقة! [email protected]