ثمة إشكاليات عديدة في العلاقة بين أمريكا من جانب والإسلام والمسلمين من جانب آخر. لكن من أكبر المشاكل، في نظر المسلمين على الأقل، موقفُ أمريكا منهم ومن دينهم. فهؤلاء لايسمعون، خاصةً في إعلام الدول العربية والإسلامية، إلا تلك المواقف والأحداث والتصريحات التي تُظهر الجوانب السلبية في ذلك الموقف. لكن من يتابع الإعلام الأمريكي بشكلٍ أكثر شمولًا يجد في هذا الإعلام جانبًا يندر الحديث عنه من قبل الإعلاميين والمثقفين العرب والمسلمين. لأن هذا الإعلام يطرح، وبشكلٍ متكرر، مقاربات عن الإسلام والمسلمين لانقول فقط إنها منصفةٌ وعادلة، بل نجزم بأنها أكثر تأثيرًا في إيجابياتها من جزءٍ كبير من الجهود التي يبذلها البعض (لتصحيح) الصورة. لماذ نجزم بهذه الطريقة؟ لأن هذه المقاربات التي نتحدث عنها تحصل من خلال برامج تصل بتأثيرها إلى عشرات الملايين من الأمريكان، وهو أمرٌ لايستطيع أن يقوم به من يريد تصحيح تلك الصورة على بعد آلاف الأميال من الأرض الأمريكية، فيكتفي بالشكوى وترديد مايسمعه من أخبار سلبية. سنأخذ مثالين مختلفين من برامج الإعلام الأمريكي خلال الأسبوع الماضي فقط. ففي بداية الأسبوع سخّرت (راشيل ماداو) الإعلامية التقدمية الصاعدة كالصاروخ في ساحة الإعلام الأمريكي جزءًا كاملًا من برنامجها اليومي على قناة MSNBC لانتقاد الرئيس الأمريكي. كان الرئيس السابق قد ظهر إلى الإعلام قبلها بيوم، بعد غياب سنتين، من خلال لقاء تليفزيوني مع الإعلامي (مات لاور) على قناة NBC الشقيقة للقناة السابقة، وأجاب على أسئلة الإعلامي في كثيرٍ من المجالات. مايهمُّنا هنا هو النقطة التي اختارت الإعلامية التقدمية التركيز عليها بشكلٍ يلفت النظر. فقد تجاهلت ماقاله بشأن جميع المسائل الأخرى ووقفت عند ماتراه (تقصيره) في أن يكون (قائدًا) ليس فقط لتأكيد التعايش بين المسلمين وغيرهم في المجتمع الأمريكي، وإنما للتأكيد على حقوقهم الدستورية والقانونية. وكان هذا في رأيها بسبب إجابته (المحايدة) على سؤال لمُحاورهِ عن موضوع مسجد نيويورك. في حين رأت ماداو أنها كانت فرصةً ليفعل مايجدر بقائدٍ ورئيسٍ سابق القيام به، خاصةً لكونه جمهوريًا ومحافظًا. لأن خطابه سيكون مؤثرًا في الشريحة الجمهورية والمحافظة من المجتمع الأمريكي. لم تكتف الإعلامية بهذا الانتقاد الشديد، وإنما استضافت بعد تعليقها مباشرة أحد قادة (مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية)، إحدى المنظمات الإسلامية العاملة في مجال الحقوق المدنية، وفتحت له المجال من خلال أسئلتها المتنوعة للحديث عن التجاوزات التي تصدر عن بعض الأفراد أو المؤسسات في أمريكا بحق المسلمين. حسنًا، ما هو الإنجاز في هذا الموضوع؟ قد يتساءل البعض ممن يجهل المنظومة الإعلامية الأمريكية وطريقة تأثيرها في المجتمع الأمريكي. لايعرف هؤلاء أن برنامج الإعلامية المذكورة حين بدأ عام 2008 استطاع أن يتجاوز بعدد مشاهديه من الفئة العمرية بين 25 – 54 عامًا عدد مشاهدي برنامج (لاري كينغ) المذيع المشهور على شبكة CNN لمدة 13 يومًا من 25 يومًا بعد إطلاق البرنامج، حسب صحيفة النيويورك تايمز العريقة. وكانت هذه ظاهرة إعلامية فريدة أصبحت موضع الحوار في أوساط الإعلام الأمريكي يومها. أما الآن فقد استقر الجميع على أن ماداو صارت من أبرز الوجوه التليفزيونية في عالم الأخبار في أمريكا، إلى درجة أن الأمر لفت نظر صحيفة الغارديان البريطانية التي درست الظاهرة ووصفت الإعلامية بأنها «نجمة الأخبار على شبكات الكابل الأمريكية». أما الأرقام فقد أظهرت أنها ضاعفت عدد مشاهدي قناة MSNBC خلال فترة بث برنامجها، وأنها في شهر يوليو الماضي تفوقت على برنامج لاري كينغ الذي يُذاع في نفس الوقت لمدة ستة أشهر متتالية. لنضرب مثلًا آخر قبل التعليق، وهذه المرة من عالم الكوميديا المسائية في التليفزيون الأمريكي. فمنذ بضعة أيام استقبل (ستيفن كولبرت) الكوميدي المتخصص في القضايا السياسية الكاتب الأمريكي المسلم (رِزا أصلان) كما ينطقها ويكتبها الكاتب نفسه، وذلك بمناسبة صدور كتابه الأخير الذي يحوي مقتطفات من الشعر والأدب، اختيرت خصيصًا من كُتاب وشعراء وأدباء من منطقة الشرق الأوسط وممن عاشوا خلال القرن الماضي «لتحتفل بالإنجازات الرائعة لأدب وشعر القرن العشرين من منطقة الشرق الأوسط». يُقدم الكوميدي برنامجه بشكلٍ خاص، إذ يُمثل دور رجلٍ محافظٍ يميني متطرف، ويقوم من خلال تمثّيل هذا الدور بانتقاد الخطاب اليميني في أمريكا بشكلٍ مؤثرٍ جدًا في برنامجه اليومي على قناة Comedy Central. وبعد أن يقدم بعض التعليقات حول أحداث الساعة، يستضيف أحد قادة الفكر أو السياسة أو الإعلام ليبحث معه قضية من القضايا. وفي لقائه مع الكاتب المسلم، أتاح كولبرت الفرصة لأصلان للحديث عن كتابه، وأرسل الإثنان رسائل مدروسة لملايين المشاهدين عن مضمون الكتاب، وبالتالي عن الإسلام والمسلمين. ففي إحدى المحطات سأل المقدّمُ الكاتبَ بشكلٍ ساخر عن (الهدف السري من كتابة الكتاب من قبل مسلم)! فأجابه الكاتب قائلًا: (لقد اجتمعنا نحن الجماعات السرية المسلمة في أمريكا وقررنا أن أفضل طريقة تتمثل في أن نستخدم الفن لنقوّض الديمقراطية الأمريكية).. لايُدرك غالبية الجمهور العربي والمسلم في المشرق آليات إيصال الرسالة الإعلامية في منظومة معقّدة كالمنظومة الأمريكية. وهذا ليس ذمًا، وإنا هو وصفٌ لواقع حالٍ يُضيف إلى المشكلات العديدة بين أمريكا وبين الإسلام والمسلمين. لايعرف هؤلاء مثلًا أن الكوميدي الأمريكي المذكور يُشكل ولو جزئيًا طريقة تفكير الملايين، وأنه حاز على ترشيح لجوائز كبرى، وأنه نظم منذ فترة مسيرة جماهيرية عامة بعنوان (استعادة العقل والمنطق في أمريكا) حضرها مئات الآلاف. بل إنه جرب مرة حضوره العالمي بطريقة الكوميديين، فرشّح اسمه لوضعه على جسر كبير في هنغاريا في مسابقةٍ أجرتها الحكومة الهنغارية، وحاز بالفعل على أكثر من 17 مليون صوت. لكن القنصل الهنغاري قدّم إليه هدية واعتذر عن إمكانية تسمية الجسر باسمه، لأن القانون يمنع إطلاق أسماء الأشخاص الأحياء على مثل هذه المعالم! نحن نعيش عالمًا معقدًا بدرجة كبيرة. ومداخل التعامل معه أكثر من أن تُحصر في بضعة مداخل تقليدية اعتاد عليها مثقفونا وإعلاميونا وساستنا. وأمريكا التي تُشتم ليل نهار بسبب مواقفها السياسية ليست أمريكا واحدة موحدة همُّها معاداة العرب والتهجم على الإسلام والمسلمين. والخيار أمام المثقفين والإعلاميين العرب أن يُدركوا ذلك التعقيد والتنوع ويقوموا بواجبهم فيكونوا جزءًا من الحلّ، أو يختاروا الكسل في متابعتهم لما يجري في هذا العالم، فيكونوا جزءًا من المشكلة. المؤسف في الأمر أن الخيار الثاني يبدو طاغيًا حتى الآن. / كاتب عربي