قرأت في العدد 12288 وتاريخ 23 ربيع الآخر 1427ه مقالاً رائعاً للدكتور سلمان بن فهد العودة بعنوان (كن جميلاً) وهو مقال يجعلك توشك على الإبحار بين كلماته بزورق من الأحلام الوردية بدون أن تشعر بقسوة مجدافيه على أطراف أناملك!! تتساءل أيها الشيخ في بداية مقالك (هل حب الجمال والحياة مشكلة ينبغي أن تُحل أم أنها فطرة إلهية ينبغي أن تُطور وتُستغل وتُرعَى حق رعايتها). شيخنا الفاضل: المشكلة لا تمكن في حب الجمال، بل في عدم حب الجمال والإقبال على الحياة.. فحين يفقد الإنسان تذوق الجمال والتعاطي مع مفرداته فلنعلم أن هناك أمراً ما يحول بينه وبين ذلك...! فالنظرة إلى الجمال تختلف من شخص لآخر بحسب أبعاد شخصيته فما يطرب له إنسان ويشيع السعادة في نفسه قد يعتبره الآخر مجرد شيء تافه يمر عليه مرور الكرام.. يقول الدكتور: (الجمال هو ذلك الإحساس الطبيعي والتذوق للجوانب الفنية والإيجابية والمبهجة في الحياة والأشياء والأحياء وفهمه بهذا الإطار هو أجدى من الخوض الفلسفي والكلامي في تجريده وتعريفه). نعم صدقت.. ولكن اعذرني فمقالك أثار شجوني.. حين أردت أن أوافقك على كل حرف فيه ولكن استعصى ذالك عليَّ.. لا لأني لست مؤمنة بصدق ما تقوله بل العكس هو كلام رائع متدفق رغم أنوفنا كتدفق نهري دجلة والفرات رغم دماء أبنائها الطاهرة التي امتزجت بضفافه..!! لكن.. واحتمل شيخي الفاضل ولكن هذه فإنها تخرج من اتكاءة لجرح غائر بالصدر..!! كيف يتذوق الجمال من طحنته الحياة برحاها طحناً فلا هو نجا من سحقها ولا هي أحالته حباً ينتفع به!! كما قال الشاعر: دهته مصائب طحنته طحناً وللدنيا رحىً عُظمى طحون مصائب يذهل التعبير عنها وتعجز عن صياغتها اللحون ٍ(كن جميلاً) مقال مبحر في عالم رائع من الجمال الذي تدعونا كلماته إلى تذوق مفرداته رغم تشنج هذه المفردات أحياناً وتمردها هي ذاتها على هذه الدعوة!! تسألني كيف أيها الداعية الفاضل سأخبرك ولكن دعني في البداية استأذن (أم حمد) في نثر حروف حكايتها أمامكم كخيوط وبرية خشنة غزلتها أنامل امرأة، ما عرفت يوماً لبس الحرير الذي يتطاير حتى لو لم تداعبه نسيمات الربيع الرقيقة!! شيخنا الفاضل.. أنا أعشق الجمال ولكن أم (حمد) لا تفعل، أنا أفلسف الجمال من وجهة نظري وأم حمد تفعل ولكن من وجهة نظرها هي فقط، شيخنا الفاضل (أم حمد) امرأة في الأربعين من عمرها أرملة لها من الأبناء ثمانية تسكن في بيت قديم متهالك حين تودع أبناءها صبحاً وهم يرتحلون إلى مدارسهم بقلوبهم التي زادتها صروف الزمان ثقوباً فغدت كالغربال لا تسكن فيه حبيبات السعادة طويلاً!! أقول حين تودعهم بقلب منكسر لم يجد من متذوقي الجمال من يجبر كسره أو يسند ركزه..!! فإنها تحمل فوق رأسها المثقل بهموم الدنيا لفة قماش كبيرة بها (بسطتها) المتواضعة هي كل رأسمالها في الدنيا تفترش وإياها الرصيف من لحظة خروج الطير خماصاً إلى ما بعد غروب الشمس!! والآن سأحدثك عن نظرة (أم حمد) للجمال لعلك تعذرها إن هي يوماً لم تتذوقه أو حتى لم ترغب في ذلك...!! عاشق الجمال حين ينهض من فراشه صباحاً ويرقب شروق الشمس من خلف زجاج نافذته اللامع فإنه يرى أشعتها أشبه ما تكون بخيوط ذهبية تحيط بعنق حسناء فتزيدها فتنةً ونقاءً فترى ابتسامة الأمل ترتسم على محياه ثم يتمطى بمرح وهو يسحب كمية كبيرة من الهواء إلى رئتيه متمتعاً برائحة عبق الصباح المنعش الممزوج بتناغم عجيب مع أشعة الشمس، أما أم حمد فإنها ترقبها بشيء من المرارة مرددة.. جروح الأيام ما لهن طبيب وعيش الفتى بالفقر ليس يطيب وحسبك أن المرء في حال فقره تحمقه الأقوام وهو لبيب فهي تراها أشبه بسلاسل حديدية تطرق قلبها الذي يعتصره الألم كل يوم وهي تشاهد صغارها بملابسهم القديمة وحقائبهم المهترئة وكلماتهم التي تقتلها كل مشرق شمس.. لماذا لسنا مثل باقي صحبنا؟.. إنهم يتندرون علينا في المدرسة ونحن نداري تلك الثقوب التي تتسع يوماً بعد يوم فيها..! أشعة الشمس تعني لأم حمد يوماً جديداً من العناء والكدح تعني حبالاً صفراء من الليف الخشن تلتف حول جسدها النحيل تلهبه لسعاً وهي تداري بصرها عن عيون صغارها المنكسرة يتماً وحاجةً!! عاشق الجمال يرقب تلك الغيوم السوداء ببشر وسرور ويكاد يتراقص فرحاً حين تبدأ قطرات المطر في الانهمار بشدة.. أما المطر بالنسبة لأم حمد، فيعني انهيار سوقها ذلك اليوم ونزول المؤشر الأحمر لأدنى مستوياته لأنها لن تحمل بسطتها في ذلك اليوم الذي انهمرت فيه مآقيه دموعاً وأحال بستانها هشيماً بعد ما كان زروعاً!! أم حمد شيخنا الفاضل لا تتغنى بجمال المطر، أتدري لماذا؟! لأن المطر يفرض نفسه ضيفاً ثقيلاً عليها يسكن معها في دارها.. مطبخها.. وحتى فراشها.. لا استئذان...! ولو أرهفنا السمع لوصل إلى آذاننا سموفونية المطر الرهيب في (دار أم حمد) فذلك (قدر) يحتضن حبات المطر المنهمرة بلا رحمة!! وذلك كأس زجاجي انثلمت حافته يتلقف تلك الحبيبات (الساقطة) بكل لهفة.. وذلك صحن حديدي تنزل فيه قطرة المطر فيبقى ريعها فيه ويتناثر باقي أشلائها على سجاد المنزل المهتري. أفنلوم أم حمد إن هي لم تتغنَ بجمال المطر بعد اليوم. شيخي الفاضل.. عاشق الجمال يرى في قدوم العيد ضيفاً كريماً ينتظره بفارغ الصبر.. قد استعد له بأنوار متلألئة وفرش وثيرة مزخرفة وأطعمة فاخرة وجدول فيه من زخم الزيارات والاحتفالات.. ما ينوء بحمله العيد بالنسبة لمتذوق الجمال ضيف يرقب فجره ويشعل من أجله جمرة ليملأ أجواءه برائحة العود والبخور.. ويرطب جنباته بالفل والريحان والعطور..!! أما أم حمد فإنها تنظر للعيد بأسى مرددة: عيد بأي حال عدت يا عيد العيد شيخنا الفاضل بالنسبة لها هو تلك المرأة التي تتحاشى النظر إليها طوال عام كامل أتدري لماذا..؟! لأنها تذكرها بعجزها.. بقلة حيلها.. بهوانها على الناس!! يمشي الفقير وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبواب وتراه مبغوضاً ليس بمذنب ويرى العداوة ولا يرى أسبابها العيد عند أم حمد هو ضيف تتمنى لو أنه طرق الباب وحين لم يفتح له ولَّى عائداً من دون إلحاح، هو تلك النظرة الحزينة التي ستسكن مآقي صغارها، هو تلك الحسرة التي ستحفر لها خنادق في صدورهم، هو الإحساس المريع باليتم والحاجة حتى النخاع..!! أَفنطلب بعد ذلك مِنْ أم حمد أن تتذوق جمال الحياة؟!!. (كن جميلاً ترى الوجود جميلاً) الجمال ليس قناعاً نشتريه ونلصقه على وجوهنا فيمنحنا السعادة المزيفة. الجمال ليس نظارة وردية مكسورة نرتديها فنرى بها التذوق المزيف للجمال..!! الجمال ينبوع داخلي يتدفق من أعماقنا.. من شعورنا بالآخرين.. من إحساسنا بمعاناة من حولنا.. الجمال ليس زهرةً نتغنى بجمالها.. أو نجوماً ننسج الأشعار بضيائها.. أو قمراً نتغزل ببهائه..!! الجمال هو قدرتك على مسح دمعة حرّى انسكبت على وجنتي يتيم.. هو شعورك بأرملة.. تصارع أمواج الحياة في قارب مكسور بلا مجداف..! الجمال أن تشعر بقيمة ما عندك.. وتشكر الله على ما ليس عندك.. شيخي الفاضل.. فرق شاسع بين فلسفتنا للجمال وتذوقنا له وبين فلسفة (أم حمد) لكن فقط أتساءل هل نلوم (أم حمد) إن هي لم تتذوق الجمال يوماً..!! سلوى حسن العضيدان