هل قبل نحو شهرٍ موسمُ الهجرة إلى المصَائف، داخل المملكة وخارجها هرباً من سيَاط الشمس وأرقِ العمَل ورتَابة الحيَاة !! ** * والقاهرة.. واحدةٌ من أبْرز معاقلِ الهجرة الموسمية لكثيرين منّا، من كلِّ الأعمار، يؤُموُّنها صَيفاً وشِتَاءً.. وخَريفاً ورَبيعاً، في الوقت الذي يفِرُّ فيه أهلُها منها.. كلَّما أذِنَتْ لهم ظروفُهم بذلك.. هَرَباً ممّا نهْربُ منه، أو (هجرةً) إلى ما نهاجرُ إليه! ** * وللقَاهرة مكانٌ أثيرٌ في خاطري، عبّرتُ عنه أكثرَ من مرَّة.. بكلماتٍ تنمّ عن شيء من حبّ لها وحَسْرةٍ عليها مِمَّا آلتْ إليه.. وقد كانت يوْماً.. (عروُسَ) المدائنِ العَرَبية.. قبل أن يْغزُوَها طُوفَان البَشَر.. مُهَاجرين إليها من كلِّ مكانٍ من أرضِ الكنانة.. طَلَباً للرزق أو العلم أو المأوى ! ** * ومن عَجَبٍ.. أنّ القاهرةَ تبقى في أفئدةِ محبِّيهَا (عرُوسَاً).. رغم (خصلاتِ الشَّيب) التي تكسُو الكثيرَ من معالمها، حتى نَهْرُها الخالدُ.. لم يَنْجُ من الجحود ونكران الجميل! كان الأوّلوُن (يقَرّبون) العَذَارى تكريماً له، وصَار الآخرُون (يرْجمُونه) بالفضلاتِ من كل صنف.. فتُشَوّه وجْهَه، وتذلُّ تاريخَه.. وتُصْغِرُ كبرياءه ! ** * أمَا أنا، فما فتَئِت القاهرة في خاطري (حورية المدن)، وإنْ عدا عليها الزمانُ، ووَخَط جَبنيَها القِدَمُ. تَبقىَ القاهرةُ شَامخةً بمسَاجدها وآثارها ومكتباتها و(الجَادِّ) من مسَارحها (وكرنفالات) خان الخليلي و(الحسين) بها.. ثُمّ، بنِيلِها العُمْلاق! أشدُّ إليها الرِّحَال كُلمّا أذنَ لي ظرفُ بذلك، مرةً أو مرَّتيْن في العام.. ولا أكاد أعُود منها. حتّى ينَازعَني الشَّوقُ إليها من جديد ! ** ويَسْألني سَائلُ : لماذا ؟ فأقولُ : لسَتُ أدري.. أيُّ سرٍّ يَشُدّني إلى هذه المدينة التاريخية العريقة.. رغم ما قد (يَصْعقُ) الحسَّ بها من تراكمات الصَّخب الحضَاري ! كنتُ (أكَابُر) في وقت مضى، فأحجمُ عن زيارتها، ثم تَداعت الأعْذَارُ.. وانهَارتْ.. بعد زيارةٍ أو زيارتيْن ! ** * كتبتُ مرةً عن القاهرة.. بعد هجْرٍ لها دامَ نحو سبْعة عشر عاماً، فقلتُ: *غَزاكِ (الترهّلُ) ياقاهرةَ المعزّ، وكنتِ قبلئذٍ حُسَناً يقْطر فتْنةً، وفتْنةً تفوحُ عِطْراً ! * تلوَثتْ أنْفَاسُك بدخان البَشَر والآلاتِ.. وكنتِ قبلئذٍ لا تَتَنفسِّين إلاّ طِيباً ! * عَبَثتْ بوجْنتْكِ (أخاديدُ) القطارات.. وأعمدةُ الجسُور المعلقة تخترقُ خريطةَ جَسَدكِ في كلِّ الاتجاهات، وكانت شوارعُك الكبرى (تَغْتسلُ) في آخر الليل بالماء والصَّابون ! * كان أهلُك وما برحُوا يعللّون ما نالك من نوائب التغيير بأن للضَّرُورة أحكاماً، وإلاّ تحّولتْ شوارعُك المترِّهلة إلى كُتِل متَلاصٍقة من البشرُ والسيَارات ! ** * ثم تفاعل معي الخيال (معقِّباً) باسم القاهرة (فقال) : * عَدَتْ عليَّ نوائبُ الزمان أيها الصديق، فاطْفَأت الضوءَ على مُقْلتيّ، وانْتزَعتْ السِّحرَ من انْفَاسي.. وصِرْتُ إلى ما صِرْتُ إليه ! تجاَوزَ عددُ (أولادي) الاثنيْ عَشَر مليوناً في الليل، وأكثرَ من ذلك قليلاً في النهار، وكنتُ قبْلئْذٍ أحتضنُ مليونين، وزيادةُ عبْءِ الدَّار.. تعني زيادةَ عبْءِ ربِّة الدار، إيَواءً وغَذِاءً وحراسة ونَقْلاً ! كان لابدّ لي، شأنُ أيّ أُمٍّ رؤُوم، أنْ (أشْقَى) برفَاهيّة أوْلاّدي.. كي يَسْعدُوا ! * دفعْتُ الثَّمنَ.. من صِبَايَ.. ومن شَبَابي.. فصرْتُ إلى ما صِرْتُ إليه ! فكيفَ تريدني أن أكونَ شَيْئاً غير ذلك ؟! ** * قلت ل(القاهرة) معلِّقاً على (ردّها) : * رغم سَطْوةِ الزَّمن.. وهَدِير البَشَر وصَخَب وسَائل النَّقل، تَبقيْن يا قاهرةَ المعزّ مُرتَاداً لمحبِّيكِ ومُرَاداً ! * يُؤْنسُهُم غبَارُكِ ودخانُكِ.. وضجيجُ إنْسَانكِ، مثلما.. كان يُؤنِسُهُم سحرُ أنفاسك ! السِّرُّ فيكِ أنتِ.. لا فيمَنْ يحبُّكِ!