سألتني ابنتي عن الفرق اللغوي بين الفيء والظلّ، فأجبتها إجابة سريعة بأن الفرق بينهما في العموم والخصوص، فالظل أعمُّ من الفَيء لأنه يطلق على ظلِّ كل شيء ليلاً ونهاراً، فما ترسمه الشمس أو القمر أو القنديل أو أي ضوء من أشكال الأجسام والشواخص على الأرض يُسمى ظِلاً في أي وقت كان، وأما الفَيءُ فإنَّ المقصود به ظلُّ الأشياء وقت الظهيرة. ثم بدا لي بعد هذه الإجابة السريعة أن أُمتِعَ نفسي بجولة سريعة في بعض الكتب التي تُعنى بهذا الجانب، فوجدتها تؤكد هذا المعنى الذي ذكرته في إجابتي عن سؤال ابنتي، وتزيد عليه بعض المعاني، مثل معنى المَيل والتقلُّب لكلمة فَيء، فإذا قلت: هذا فَيء في الشجرة أو الجدار فإنك تقصد ظِلُّها بعد زوال الشمس وقت الظهيرة، وإذا قلت تفيَّأت الأشجار فإن معناها أن ظِلالها قد مالت، فمن معاني تفيَّأ مال، ومنه: فاءَ الرجلُ: أي رجع وعاد، وفاءت المرأة إلى دارها أي: رجعت. وتقول: هذا ظلُّ الليل، أي: سَوادُه، وهذه ظِلال الفتنة، أي: آثارُها. ثم بدا لي أن أرجع إلى معنى آيةٍ قرآنية كريمة وردت فيها كلمة (الفَيء) بفعلها المضارع، وهي الآية الثامنة والأربعون من سورة النحل، قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}، فوجدت في تفسير ابن كثير - رحمه الله - وكان أقرب كتب التفسير إليَّ، ما يلي: يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له المخلوقات بأسرها: جمادها وحيوانها، ومكلُّفوها من الإنس والجن، والملائكة، فأخبر - سبحانه - أن كل ما له ظِل يتفيَّأُ ذات اليمين وذات الشمال - أي: يميل - فإنه ساجد لله تعالى. قال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كلُّ شيء لله عز وجل، وقال مثل ذلك قتادة والضحَّاك وغيرهم من العلماء، وقال مجاهد - أيضاً-: سجودُ كلِّ شيء لله فَيئُهُ، وسجود الجبال فَيئُها، وقد نزَّلهم منزلة العاقل حينما أسند السجود إليهم، ثم قال: إنَّ أمواج البحر هي صلاته لله. واستشهد بقوله تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} ومعنى هذه الآية أن كلَّ ما في السماوات والأرض يسجد لله، وظِلالُ الأشياء كلها تسجد لله في أول النهار وآخره. ولو توقَّفت متأمَّلاً مسبِّحاً بحمد الله ذي العزة والجلال أمام هذه الحقائق الناصعة التي تغيب عن أذهان معظم البشر بسبب غفلتهم وإعراضهم، وشعرت أنَّ النظرة إلى ظِلالِ الأشياء التي نراها أصبحت نظرة تقدير واحترام، لأن حركة تلك الظلال تعني سجوداً وعبادة لله تعالى، وهو ما قد يثقل استيعابه على الغارقين في التفسيرات المادية للأشياء. وهكذا رحلت بي كلمتا (فَيء وظلال) هذه الرحلة الجميلة، التي كشفت لنا هذه المعاني الجليلة، فسبحان القادر على كل شيء. إشارة: أيُّها العابد الرغائب مهلاً