الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فان الفقهاء حرصوا في باب الوقف ان تكون العين الموقوفة، مما يمكن الانتفاع بها مع بقائها، بل نص كثير منهم على اشتراط ذلك، او ادراجه في تعريف الوقف، بيد ان فريقاً منهم قالوا بصحة انواع من الوقف لا يتحقق فيها هذا الشرط، اما لعدم التسليم به اصلاً، او لا ستثناء تلك الانواع من الاصل، ومن ذلك وقف النقود. فالنقود من دراهم ودنانير او عملات ورقية هي مما يتلف بالاستيفاء، ولا تبقى عينها، فمن ثم تباينت اراء الفقهاء تجاه حكم وقفها، فقد ذهب الى صحة وقفها زخر من فقهاء الحنيفة، وذهب اليه المالكية في الصحيح من مذهبهم، كما انه وجه عند الشافعية، وقول لدى الحنابلة، قال شيخ الاسلام ابن تيمية اما القول بعدم الصحة في وقف النقود، فهو قول الحنفية في المشهور عندهم، وهو قول عند المالكية، وهو المشهور عند الشافعية، وعند الحنابلة. وقد استدل هؤلاء بأنَّ الوقف تحبيس الاصل، وتسبيل المنفعة، ومالا ينفع به الا باتلافه لا يصح في ذلك، لكن هذا التعليل يمكن مناقشته بأن تحبيس الاصل يكفي فيه معناه، وهو متحقق في وقف الدراهم، فإنَّ قيمتها باقية، وذاتها غير مقصودة، ولذلك فانها لا تتعين بالتعيين اما القائلون بصحة وقف النقود، فقالوا انه يمكن الانتفاع بها بالمضاربة، والتصدق بريعها او باقراضها. وعند النظر في القولين، واستصحاب مقاصد الوقف، وقواعد الشريعة، يظهر - والله اعلم - القول بصحة وقف الدراهم وما اشبهها من النقود، لان الوقف سبيل من سبل الخير وباب من ابوابه، لا ينبغي الحد مما يتناوله هذا الباب بما لا ينهض على معارضة هذه المصلحة. وان من الناس من قد يحجم عن الصدقة بقدر ما من المال، ولكنه اذا علم ان ماله سيبقى موقوفاً يتكرر الانتفاع منه بالاقراض او باستثماره في مضاربة ونحوها، وبصرف الربح في الاعمال الخيرية فأحسب انه سيشارك فيه ، ويفرح به. وان الاعمال والمشاريع الخيرية على اختلاف صورها، بحاجة الى هذا النوع من الوقف، فقد يكون بعضها يعني باقراض المحتاجين او راغبي الزواج، وحينئذ فلابد من رصيد من المال يوقفه اهل الخير على هذا الغرض، وقد يكون بعضها يحتاج الى استثمار يريع عليه، بل هذا الذي ينبغي للمؤسسات الخيرية ان تجعل له الاولوية، فهي بحاجة اذاً الى قدر من المال تستثمره، وقد لا يتوفر لديها من الصدقات ما يكفي، ولكن اذا علم المحسن ان ما سيدفعه سيدخر وقفاً فانهم سيجدون اولئك الذين يرغبون في دفع مبالغ ربما تكون اكبر بكثير مما لو كانت على وجه الصدقة المقطوعة، والله اعلم. اذا كان الارجح من اقوال اهل العلم هو صحة وقف النقود، فان من المشاريع الخيرية التي يمكن توظيف هذا النوع من الوقف فيها، ما يمكن ان تسميه جمعيات الاقراض الخيرية. ان تهافت الناس على شركات التقسيط ومؤسسات التمويل على اختلاف انواعها، التي تتعامل بتقسيط السيارات فيأخذها المحتاج ليبيعها ويستفيد من ثمنها، دليل على حاجة الناس الى من يقرضهم قرضاً حسناً لا يكبدهم اكثرمما يأخذون، كما هو الحال في التعامل مع تلك الشركات التجارية التي لا تلام في كونها تزيد من قيمة السلعة لكونها مقسطة او بثمن مؤجل، وان كان المؤمل ان تكون نسبة الربح معتدلة معقولة، ناهيك عن آخرين لا يتورعون عن الاقراض قرضاً ربوياً. كل ذلك يدفعنا الى القول بأن الجمعيات الخيرية ينبغي ان تفكر حقاً في انشاء قسم للاقراض، كما ينبغي لذوي الهمة في الخير والتخطيط لاعمال البر ان ينظروا في انشاء جمعية او جمعيات للاقراض، او للقرض الحسن. ان اقراض الفقير مبلغاً من المال يمكنه من بناء بيت ولو صغير، او الشروع فيه على الاقل، او تأسيس محل صغير للاستثمار، او شراء سيارة مناسبة للعمل عليها، كل ذلك خير له وانفع من هبة من المال مقطوعة، ولكنها قد لا تسمن ولا تغني من جوع، كما ان الاقراض يحقق للمتبرع استمرار الانتفاع بما تبرع به ولو كان قليلاً. لعل اول ما يقال هنا، كيف يمكن ضبط الاقراض بحيث نضمن استيراد هذه الاموال المقترضة ولاسيما مع كثرة اهمال الناس، ومماطلتهم في التسديد؟ وجواب هذا الايراد: ان القناعة بفكرة هذا النوع من العمل الخيري وبالحاجة الملحة اليه، ستحمل على التفكير الجاد بالوسائل الممكنة لضبط ذلك، ولن نعدم - ان شاء الله - وسائل كثيرة وضمانات ان لم تكن وافية 100%، فلن تقل عن ذلك كثيراً، واذا امكن استرداد 70-80% فهذا معقول، فمن الممكن استخدام الوسائل والضمانات ذاتها التي تقوم بها شركات التقسيط والبنوك، ومن اهمها الخصم التلقائي من الراتب، اضافة الى الكفيل، وغيرها من الضمانات. هذه فحوى الفكرة لمشروع جمعية الاقراض او القرض الحسن، او قسم الاقراض في المؤسسات والجمعيات الخيرية، وبقي بعد تنظير المشروع وتفصيل خطواته ووسائله وعوائقه ونحو ذلك، أن ادعه الى مناسبة اخرى، ولاجل مشاركة الآخرين في التأييد والاضافة، ولربما طرحت الفكرة فقيض الله لها من يتبناها ويرعاها وينظرها ممن هو اكفأ ممن طرحها، ورب حامل فقه الى من هو افقه منه. ولعل هذه الفكرة ايضاً ان تنجب اخوات لها وتوائم كجمعيات للتمويل، ولكن بقدر معقول من الربح فتكون خيرية ربحية، او تجارية، ويمكن ان تقوم على الاوقاف فتحقق بذلك هدفين في عمل واحد، الاستثمار لهذه الاوقاف، وسد حاجة الناس في التمويل بالسبل الشرعية، من غير مبالغة في الزيادة من اجل التأجيل او التقسيط.. والله الموفق. * المحاضر بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم