وصف عدد من النقاد ل«الثقافية» حال (القصة القصيرة) أمام مد الرواية وشيوع (القصة القصيرة جدًّا) بأنها تستدعي حالة من التأمل والنقد الواعي، الذي يغربل المنتج السردي، ويكشف عن جذور الحالة الراهنة لهذا «الثالوث» السردي؛ إذ برز مؤخرًا حالة من صراع الحضور؛ تستدعي توصيفًا ناقدًا لهذه الحالة، وتستشرف حالة (جزر) مقبلة، ستكون لصالح فن سردي آخر، ربما لن تكون حينها الرواية ديوانًا للعرب! ملامح تحول قال الدكتور والناقد صالح بن معيض الغامدي في سياق توصيفه لهذه الحالة: ربما كانت مزاحمة الرواية والقصة القصيرة جدًّا للقصة القصيرة حالة ملموسة قبل سنوات، وهذا ما لمسته من خلال مؤتمرات وفعاليات نقدية عدة، لعل من بينها (دراسات كرسي الأدب السعودي)؛ إذ أجد أن هناك ما يمكن أن أسميه بحالة «تشبع» فيما شهده مد الرواية، والقصة القصيرة جدًّا؛ إذ وصلتا - في تصوري - إلى ما يشبه الطريق المسدود، الذي فقدتا معه الكثير من الجاذبية، ولفت الأنظار إليهما. إشكاليات أجناسية أشار معيض إلى أن عودة القصة القصيرة لا تلغي حضور القصيرة جدًّا، التي وصفها بأنها لا تزال بحاجة إلى مزيد من تدقيق المصطلح، وتحديد السمات، وغيرهما، أمام كثرة كتّابها، موضحًا أنه نتيجة لهذا أشكل على بعض النقاد تصنيف كم من هذه الكتابة بين: قصة، خاطرة وكتابة سردية.. مؤكدًا قدرة القصة القصيرة على معالجة الكثير من القضايا الاجتماعية بشتى مجالاتها، مردفًا قوله: هناك اهتمام، وعودة إلى القصة القصيرة، يذكراني بفترة الثمانينيات؛ ما يجعل هذه المزاحمة في الفترة الراهنة في غير محلها. حالة استشراف عن قادم «صدارة» الفنون السردية قال معيض: كما يبدو لي أن (السيرة الذاتية) هي الفن السردي، وهي من ستكون في مقدمة فنون السرد؛ إذ ألحظ شيوع الكتابة في هذا الفن، الذي يتخذ أشكالاً مختلفة، منها: الرحلة، المذكرات الشخصية واليوميات؛ إذ أتوقع لها حالة كتابية أكثر ازدهارًا خلال الفترة المقبلة. صراع حضور تحدَّث الناقد المصري الدكتور سليمان علي عبدالحق عن هذا التزاحم قائلاً: هناك «صراع» أشبه بأزمة تلاحق أفكارًا نتيجة ما نشهده من تطور لا يمكن أن ينكره أحد، كما حدث في تطور القصيدة التقليدية إلى قصيدة حديثة بعد ذلك، ومن ثم إلى قصيدة معاصرة؛ إذ لا يمكن لمن يتتبع حركة الفنون والأجناس الأدبية في وقتنا الحاضر إنكار ما يحدث حقيقة من هذا التلاحق الأجناسي. ذوبان الفنون وأكد عبدالحق في حديثه عن هذه الحالة الكتابية أن لكل حركة أدبية فضاءها، ولها - أيضًا - متلقون؛ لتأخذ بذلك فترة معينة. وأضاف: إذا استطاعت من خلال التقنيات الفنية، وعبر رؤى المبدعين في هذا الفن القصصي، أن تأخذ مكانة أدبية جديرة بهذه المقومات فهي بذلك تستمر، وما لم يستطع أن يتماثل في هذه التقنيات، والاستمرار عبر هذا التكنيك الفني، فبلا شك أنه يذوب ويفنى. تردٍّ سردي! عن حال المنتج «السردي» في جانبي الرواية والقصة القصيرة والقصيرة جدًّا قال الناقد الدكتور ظافر الشهري: عندما نمعن القليل من النظر في هذا الكم من الروايات، والقصص، والقصص القصيرة جدًّا، نجد أن كل من خطر له خاطرة دوّنها بوصفها قصة قصيرة؛ ما يجعلنا أمام السؤال الآتي: فيما لو تم غربلة كل هذا الكم الهائل مما يعتقد أنه روايات وقصص قصيرة فما الذي يصدق من كل ذلك الكم على أنه رواية أو قصة أو قصة قصيرة؟ لن أكون مبالغًا إن قلنا إن 5 % هو ما يمكن وصفه بالكتابة الإبداعية. قصاص الشبكات اعتبر الشهري أن منشأ الأزمة الحقيقي ليس (تزاحم) الأجناس الأدبية قائلاً: إن مكمن الأزمة في كتابة الفنون الأدبية اليوم ما نشهده من غث عبر وسائل الاتصال الحديثة؛ إذ تجد من يغرد - على سبيل المثال لا الحصر - صباح مساء معتبرًا من 140 حرفًا أنها قصصا قصيرة جدًّا؛ ليتحول عبر هذا الغثاء ومن خلال شبكات التواصل إلى قاص، ومنها إلى ناقد! وهو لا يستطيع كتابة تغريدة واحدة دون أخطاء إملائية عدة! فما بالنا عندما نتحدث عن ذلك الغثاء فنيًّا أو أدبيًّا؟! رهان التصدي أما عن المنشأ «الاتصالي» لهذه الأزمة عبر الوسائط الإلكترونية وشبكاتها الاجتماعية المختلفة، وعبر وسائل الإعلام الثقافي (صحافة وإذاعة وتلفزيون)، التي ساهمت مجتمعة في انتشار «زوبعة» كتابية، و حالة «ضبابية» من التلقي، فأكد الشهري أن الوسائل الإلكترونية لا يمكن إيقاف تدفقها الهائل في هذه الموجة من «ضجيج» الكتابة، إلا أن الرهان على النقاد، ونعول على الذائقة الأدبية، ونفتقر إلى الإعلامي (المثقف) و(الناقد) أيضًا للتصدي لمثل هذه الحالة المأزومة من الكتابة، وتوجيه الوعي الجماهيري. ما بعد الكتابة وعن التنبؤ بانكشاف هذه الأزمة قال الشهري: إذا ما أدركنا مكمن هذه الأزمة، فسيظل عزاؤنا الأدبي، وذائقتنا بانتظار زوال هذا «الزبد» ليذهب غثاء، وسنظل على يقين أن ما جاء سريعًا سيذهب - يقينًا - سريعًا؛ لتظل الفنون الأجناسية رواية، وقصة، وقصة قصيرة، وقصة قصيرة جدًّا، قائمة بوصفها فنونًا إبداعية، وأجناسًا أدبية، لها أبنياتها التي لا يستطيعها إلا الأدباء الكبار.